أردوغان والعمق الاستراتيجي ولبنان

TT

وصل إلى لبنان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في زيارة امتدت يومين، حضر خلالها مناسبة مالية في بيروت، وافتتح مشاريع تنموية في الشمال (عكار)، ومستشفى للحروق بصيدا؛ وهذا فضلا عن مقابلته للرؤساء وللسياسيين اللبنانيين، وإلقاء عدة كلمات. وهناك احتمال أن يزور الرئيس التركي عبد الله غل لبنان خلال الشهر المقبل. أما وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، الذي زار لبنان عدة مرات قبل أن يتولى وزارة الخارجية وبعدها؛ فقد صدر له بالعربية من لبنان قبل شهر كتابه السياسي الضخم «العمق الاستراتيجي»، الذي أعطى العهد التركي الجديد رؤيةً فلسفيةً واستراتيجية سلمية ومنفتحة وعقلانية. وهو عندما يأتي مع الرئيس أردوغان، سيجد كثيرين من اللبنانيين الذين يعرفونه ويقدرونه.

بادر الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى إقامة علاقات مع أردوغان قبل أن يتولى رئاسة الوزارة التركية عام 2004. وقد بلغت العلاقات اللبنانية – التركية ذروتها في عهد سعد رفيق الحريري الذي توصل إلى إلغاء أذون الدخول بين الدولتين في عام 2009. بيد أن الدخول التركي الجديد إلى الشرق الأوسط ما ظهرت معالمه إلا بعد عام 2006. وكان أردوغان قد لفت الانتباه إلى مقاربته الجديدة للموقف في الشرق الأوسط، حين دفع البرلمان التركي (الذي كان حزب العدالة والتنمية يملك أكثرية فيه ولا يزال) إلى التصويت على عدم التعاون مع القوات الأميركية التي كانت تستعد لغزو العراق عام 2003. وهو يرفض منذ عام 2004 (حين بدأت أمارات المواجهة الأميركية - الإيرانية على النووي) أن يدخل في الاصطفاف الغربي ضد إيران بشأن ذلك الملف. وقد دخل مع البرازيل في محاولة للوساطة والتبادل للمواد النووية في عام 2009، وهي المحاولة التي قاومها الأميركيون والغربيون وأفشلوها بالمصير إلى فرض عقوبات على إيران للمرة الرابعة. وتطورت مواقفه بشأن القضية الفلسطينية وإسرائيل، من الاحتجاج على حرب إسرائيل على لبنان عام 2006، وإلى التظاهر ضد الحرب على غزة أواخر عام 2008، فإلى التشاجر مع شيمعون بيريس رئيس الكيان الإسرائيلي في دافوس عام 2009، ثم إلى واقعة سفينة مرمرة المندفعة لفك الحصار عن غزة، التي قتل فيها تسعة ناشطين أتراك، وأدت إلى ترد في العلاقات التركية - الإسرائيلية لا يزال مستمرا حتى اليوم.

على أن هذا الجانب التغييري في السياسة الخارجية التركية، الذي اتسم بالتجافي مع السياسات الأميركية تجاه المنطقة في عهد الرئيس بوش، لا يكتمل فهمه إلا إذا وضعنا في اعتبارنا عدة عوامل وعناصر أخرى: أن تركيا في عهد أردوغان أرادت محاولة للوساطة بين إسرائيل وسورية بلغت ذروتها في المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين بتوسط تركي عامي 2007 و2008. وأن سياسات إزالة التوترات، وفتح آفاق جديدة تفاوضية لسائر المشكلات القديمة والمستجدة بالداخل التركي ومع الجوار، كانت ولا تزال هي أطروحة أحمد داود أوغلو التي عبر عنها في كتابه «العمق الاستراتيجي» 2001 بصيغة: «صفر مشكلات»، أي أن الهدف أن لا تكون لدى تركيا أي مشكلة مع أي طرف. ولذا كانت هناك خطوات باتجاه الأكراد، وأخرى باتجاه الأرمن، وتجاه اليونان، وتجاه القضية القبرصية. وقد جلبت هذه السياسات لتركيا آفاقا ودودة ومفتوحة مع العرب والمسلمين، لكنها بدأت تثير تحفظات لدى الأميركيين والأوروبيين، عندما وصلت للمجابهة الدبلوماسية مع إسرائيل، والخروج على السياسات الغربية تجاه إيران. وفي الوقت نفسه؛ فإن تركيا التي تموضعت بالعراق (من خلال العلاقات الوثيقة مع سائر الأطراف السياسية وبخاصة الأكراد)، وتموضعت بسورية (من خلال مئات الاتفاقيات الاستراتيجية)، وتموضعت في القضية الفلسطينية (من خلال قيادة الحملة لفك الحصار عن غزة، وإقامة علاقات ودودة مع الحركات الإسلامية)، وتموضعت في لبنان (من خلال المشاركة مع قوات الأمم المتحدة بالجنوب لإنفاذ القرار رقم 1701، والإسهام في التهدئة بين السوريين واللبنانيين)؛ تجد أن لنجاحاتها حدودا لا تتعداها في سائر تلك الساحات. وهذه الحدود ليس سببها الاعتراضات الغربية والإسرائيلية وحسب؛ بل والأطراف المتحركة الأخرى وعلى رأسها إيران. إذ سواء قصدت تركيا الأردوغانية ذلك أم لم تقصده؛ فإن الحركية التركية الزاخرة كان من نتائجها استحداث نوع من التوازن في سائر تلك الساحات، والتي كان الاصطراع الأميركي - الإيراني على مدى السنوات الماضية قد نشر فيها الانقسام والاضطراب؛ بحيث صار التدخل التركي رمزا لصون الاستقرار والمصالح على حد سواء.

لا يمكن إذن وصف العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بأنها صراعية، كما لا يمكن وصف العلاقة بين تركيا وإيران في العالمين العربي والإسلامي بأنها تحالفية. ولا يرجع ذلك إلى اختلاف المصالح وحسب؛ بل وإلى اختلاف المواقع والأفكار والمقاربات. فتركيا دولة من دول الحلف الأطلسي، وقواتها تشارك مع قوات الأطلسي في أفغانستان. ثم إنها تتشارك مع الولايات المتحدة في الانتشار في آسيا الوسطى والقوقاز. وتركيا تسعى منذ خمسين عاما للدخول إلى السوق الأوروبية فالاتحاد الأوروبي، وهي ما أهملت هذا الهدف رغم الإعراض الأوروبي. وفي أوروبا اليوم جاليات تركية مهاجرة ومستقرة لا تقل عددا عن الثمانية ملايين. ولا شك أن النهوض الاقتصادي والثقافي التركي يدين بنسبة 70 في المائة من زخمه إلى هذه العلاقات «التاريخية» بين تركيا والغرب الأوروبي والأميركي. لكن تركيا ما خنعت للحدود التي أراد الأميركيون والأوروبيون فرضها عليها، وتحركت باتجاه العرب والمسلمين في عقد الصراع الهائل. وقد أفادت من وراء ذلك تجاريا كما أفادت نفوذا سياسيا. ثم إنها - حتى في نظر الأميركيين والأوروبيين - توشك أن تتحول إلى «موديل» للإسلام المعتدل والمتنور. وهكذا فإنه لا يمكن القول إن الحركية التركية باتجاه آسيا الوسطى والقوقاز (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، وباتجاه الشرق الأوسط (على أثر الهجمة الأميركية والتصدي القاعدي والإيراني)؛ عائدةٌ إلى الإعراض الغربي عنها. بل لأن عندها مصالح تاريخية، ولديها رهانات. وكما سبق أن قلت عام 2006 عندما كنت أعلق على حرب يوليو (تموز)؛ فإن الدخول الإيراني استتبع دخولا تركيا، وهذه ظاهرة تاريخية تكررت عدة مرات في الاستراتيجيات والمجاولات بين شرق الفرات وغربه. وما كان طبيعيا أن لا يكون لتركيا مدخل إلى المنطقة إلا النافذة الإسرائيلية أو الأميركية، وهي قلب تلك الإمبراطورية التي كانت مسيطرة على المشرق كله لأكثر من أربعمائة عام!

ومن جهة أخرى؛ فإن شرعية الدخول التركي الثابتة من طريق التاريخ ومن طريق الجوار ومن طريق المصالح وأيضا من طريق المشكلات؛ إن لم تتوقف على «السماح» الأميركي والأوروبي؛ فإنها لا تتوقف أيضا على السماح أو الشراكة الإيرانية. فهناك بالفعل مواضيع مشتركة بين الطرفين مثل القضية الكردية. لكن هناك افتراقات بشأن «تكوين» السلطة بالعراق، والوجود السياسي «المتضائل» لمليون تركماني، والتآكل الهائل الذي لحق بالوجود السني السكاني والسياسي، وهي جميعا أمور حاول الأتراك إفهام الإيرانيين والأكراد والشيعة العراقيين اهتمامهم بها؛ بيد أن اهتماماتهم ما لقيت الاستجابة المأمولة. وقد أرادت تركيا الأردوغانية إحداث توازن في الموقع السوري، ليس تجاه أميركا وإسرائيل وحسب؛ بل وتجاه إيران وما حدث ويحدث بالعراق من تكوين جديد للسلطة على قاعدة الكثرة الشيعية. لكن السلطات بسورية ما استطاعت الاستجابة للاستقلالية التي أملتها تركيا. ويصرخ السوريون الآن بأن ذلك كان بسبب التعنت الأميركي، والعدوان الإسرائيلي؛ إنما الحقيقة أن التقلقل السوري سببه الرئيسي الاستئسار طوال العقد الماضي لجهود ومساعي الجبهوية الإيرانية التي لا تزال تخوض معارك دفاعية على أجساد وأراضي العراق وسورية ولبنان، وربما الكويت والبحرين وأماكن أخرى.

يأتي أردوغان إلى بيروت ولبنان، وهو قامة عالية في العالمين العربي والإسلامي، ونموذجه وهدفه الاستقرار من طريق التوازن وتقديم المصالح الوطنية العليا. ما كان أردوغان عثمانيا جديدا ولن يكون، لكنه ليس كماليا منكفئا على أسواره القومية المتشددة. وبين هذين الحدين (العثمانية غير المستهدفة، والكمالية المتجاوزة)، تظهر بالتدريج المعالم البارزة لتركيا الجديدة، الدولة الناهضة والمرتاحة والبازغة في أفق الشرق.