أين محمد صادق دياب؟

TT

على مدخل هذا الشتاء، وفي ليالي برودته، لا أدري لماذا سكن في بالي «العمدة» محمد صادق دياب، الذي غاب وغاب معه عموده «الهادئ» الجميل عن صفحات هذه الجريدة منذ بعض الوقت.

نفتقد الأستاذ دياب، الرجل البهي النفس، الدائم التفاؤل، الفنان في عبارته وفكرته، المنقب عن الأحلى في غابة القبح.

يغيب دياب لبعض الوقت خارج البلاد، حتى يتفرغ لمجالدة وعكة ألمت به، على شراستها، إلا أنه يواجهها، كعادته بجرعة الأمل وشراب التفاؤل.

لمن لا يعرف هذا «الإنسان» الجميل، فهو أحد فرسان الصحافة السعودية المخضرمين، له سهم معلى في معركة الصحافة السعودية أثناء عراك الحداثيين مع خصومهم، قاد مجلته بكل توازن بين الطرفين. وهو تربوي قديم ومعلم أقدم، شاهد على صفحات من تاريخ التلميذ والمعلم السعودي، لذلك تجد مقالاته التي تتناول واقع التعليم والتربية في السعودية تتميز بمزيج من المعاناة الذاتية والخبرة الميدانية، وموقف المثقف المنحاز للمستقبل والانفتاح.

وهو مؤرخ محترف للفن السعودي وصديق قديم لأساطين الأغنية السعودية، صحبوه لجمال روحه وتنوعه الأدبي. طلال مداح وغازي علي وفوزي محسون ومحمد عبده.. وغيرهم.

فوق هذا وذاك، يعتبر الأستاذ دياب عاشقا من طراز لاتيني للمكان وعبق الحارات، يعرف «رواشين» جدة القديمة وزواريبها، تشم وأنت تقرأ كتابه عن جدة، نسيم البحر وعبير عنبر الذكريات القديمة، وتلامس يدك، مع كلماته، سلاسل الميناء المنقوعة بملوحة البحر الكبير.

يختلف دياب مع من يختلف، فتراه يختلف برقي، يملك مبضع الجراح الذي يزيل الورم ولا يجرح الجلد الحي، يسدد فيقع سهمه على عين الهدف دون أن تطيش سهامه ذات اليمين وذات الشمال.

رجل عجن من أدب ورقي، أخذ عليه البعض أنه ربما كان رقيقا أكثر من اللازم، ولكنه دائما ما يكشف تحت حرير رقته معدنا صلبا وفكرا نيرا، لا يهادن في قواطع الأفكار، ولا يجامل على حساب تكريس الروح الوطنية ونبذ النزعات المتعصبة بكل أنواعها.

معرفته وعشقه لجدة، التاريخ والمكان والزمان، لم يأت بشكل فج أو مفتعل أو مستفز لبعض المتربصين، فلا أحد يزايد على «العمدة» دياب، كما يلقبه محبوه، في عشقه للمكان الخاص، ولكنه في نفس الوقت كان راقيا وجميلا، بل ومحببا للآخرين في ثراء المكان «الجداوي» وجماله وعمقه الثقافي والتاريخي.

هكذا يكون حب العقل والروح معا، مزيج من نار العاطفة وثلج العقل. ثوران الفن وهدوء الفكر.

هذه الكلمات رسالة افتقاد وشوق وتقدير للأستاذ الجميل محمد صادق دياب «العاقل الجميل» مع أمنيات صافية بصفاء روحه أن يعاود الطيران ويصفق بأجنحته بين الكلمات والأمكنة.

[email protected]