العراق «الاتحادي»

TT

العراق الاتحادي، عبارة لم يعتد عليها الكثير من العراقيين الذين تربوا لأجيال عديدة على منطق الحكم المركزي والدولة الشمولية، واليوم فإن هذه العبارة توجد في الدستور وهي أيضا جزء من القسم الذي يردده الرؤساء والوزراء وأعضاء مجلس النواب. لكن على أرض الواقع فإن الكثير ممن يرددونها لا يؤمنون بها أو لا يفهمونها أو ربما لا يلاحظونها. وبسبب ذلك فإن تعريفا واضحا لطبيعة وماهية النظام الاتحادي في العراق لم يوجد بعد، كما أن تطبيقه الدستوري المتمثل في مجلس الاتحاد ما زال غير مطروح للنقاش، وبنفس الوقت فإن وجود إقليم كردستان كأمر واقع بل وربما كأكثر الوقائع رسوخا في عراق اليوم، يجعل من الصعب تجاهل الصفة الاتحادية والتعامل معها وكأنها مجرد مصطلح لفظي يشبه الكثير من المصطلحات الأخرى التي نرددها دون أن نعنيها.

والحال أن هناك ذهنيتين في التعامل مع الوضع العراقي تبقيان هذا النموذج الهجين من التنظيم السياسي – الإداري؛ الذهنية الأولى هي الذهنية الكردية التي تتعامل مع النظام الاتحادي ليس فقط كحقيقة دستورية بل وأيضا كأمر واقع ومبدأ أساسي من مبادئ النظام الجديد، والذهنية الثانية هي الذهنية المركزية التي تطبع سلوك معظم الأحزاب العربية. ولسنا هنا بمعرض المفاضلة بين الذهنيتين لأن النص الدستوري القائل بأن العراق دولة اتحادية قد حسم هذه المفاضلة، وما يجب العمل عليه الآن هو تعريف هذه الصفة الاتحادية من خلال علاقة منظمة ومقننة بين المركز والأقاليم، بما يستلزم إما تطبيق البنود الاتحادية في الدستور أو تعديلها وعرضها على الاستفتاء.

وهنالك بشكل عام أطروحتان بخصوص الطبيعة الاتحادية للعراق، الأولى هي تلك التي تذهب إلى تقسيم العراق إلى أقاليم تتمتع بصلاحيات واسعة جدا تحجم المركز، والمشكلة التي تثار هنا هي في طبيعة تلك الأقاليم وما إذا كانت يجب أن تستند إلى الهوية الطائفية أو على الهوية الجغرافية. عندما كان جو بايدن عضوا بالكونغرس اقترح شكلا من الفيدرالية التي يقسم فيها العراق إلى ثلاثة أقاليم: كردي وشيعي وسني، وتتولى الحكومة المركزية فيها صلاحيات محدودة جدا من قبيل توزيع العائد النفطي وإدارة السياسة الخارجية والدفاع عن حدود الدولة. لكن هذا السيناريو واجه رفضا واسعا على أساس أنه مشروع لتقسيم العراق، إلا أن هذا الرفض لم يدعم باقتراح بديل وواضح المعالم، والسبب في ذلك أن معظم القوى السياسية العراقية كانت منشغلة بالاستحقاقات العاجلة ولم تشعر برغبة مناقشة أمور ليست ملحة، خصوصا أننا نتعامل مع طبقة سياسية تميل إلى خرق السقوف الزمنية وتأجيل القضايا الإشكالية حتى يستعصي تأجيلها أكثر فتواجه بمنطق رد الفعل ودون صيغة استراتيجية. وقد كشفت الأحداث أن جميع تلك القوى تفتقر للقراءة الاستراتيجية ولرؤية واضحة حول قضايا حاسمة مثل الفيدرالية وتوزيع عوائد النفط.

الأطروحة الثانية هي أطروحة الإقليمين، والتي تُنظر لها معظم الأحزاب ذات التوجه العروبي وعلى أساس أنه مادام إقليم كردستان قد حسم وضعه ولا يمكن الرجوع عن حالة الإقليم الفيدرالي التي يتمتع بها الآن إلى أشكال من قبيل «الحكم الذاتي» وفق الصيغة التي اقترحت في السبعينات، وما دام الجميع معترفا بالخصوصية القومية واللغوية للكرد في العراق فإنه ينبغي القبول بهذا الوضع، على أن لا تكون هناك أي أقاليم أخرى في الجزء العربي بما يعنيه ذلك من تحول هذا الجزء إلى إقليم واحد، إذ إن الحديث عن دولة اتحادية يتطلب وجود وحدات سياسية - إدارية متكافئة وليس فوضى من الكيانات المختلفة التكوين والتعريف والحدود في الصلاحيات. ولكن حتى هذا الطرح لم تتم ترجمته لرؤية واضحة ومحددة المعالم بعد.

إن هذه القضية مهما طال تجاهلها ستعود إلى الظهور، ومؤخرا جرى الحديث ولو إعلاميا عن إقليم للمسيحيين، كما أن العديد من المحافظات الجنوبية تطالب، وإن بشكل غير منسق، بالتحول إلى أقاليم، ولكنها جميعا تفتقر إلى الاندراج برؤية واضحة حول ما الذي سيعنيه التحول إلى إقليم أو اتحاد محافظتين أو أكثر ضمن إقليم واحد، وماذا سيترتب على ذلك. لقد تم تعطيل النقاش في هذا الجانب طويلا بسبب الصراع حول المركز، ولكن هذا الصراع ذاته ربما يتطلب منا التفكير في وسائل وأطر جديدة لتخفيف الضغط ومعالجة الكثير من مكامن عدم الثقة والمخاوف عبر وسائل أخرى غير تضخيم المركز بمزيد من المناصب الترضوية، وزيادة عدد الوزارات والمؤسسات المعتمدة على المركز.

فكرة أن كل شيء في العراق لا بد أن يمر ببغداد باتت فكرة قديمة، وفي أحسن الأحوال غير ناجحة، ولا بد من طرح رؤى جديدة ترتفع لمستوى المشكلة وتعالج ركام العداوات والشكوك التي تجمعت داخل بنى المركز وباتت تؤدي إلى إعاقة قدرته على التحرك في الوقت الذي لا توجد فيه آليات لضمان قدرة الأطراف على التحرك بمفردها إذا ما أصيب المركز بالشلل. لقد حرر إقليم كردستان نفسه من هذه المشكلة وبات تحوله إلى ملاذ آمن بالنسبة للمسيحيين رمزا لوجود عراقين مختلفين في النوع، وقد بات على العراق الثاني أن يجيب عن الكثير من الأسئلة الصعبة والمؤجلة المتعلقة بأي عراق يريد أن يكون.