إشكالية انفصال الأقليات عن الدولة العربية

TT

كم أتمنى لو أن المثقفين العرب، وكتاب الصحافة والسياسة، يقرأون عبد العزيز الدوري. أهمية الدكتور الدوري الذي توفي، قبل أيام في عمّان، عن 91 عاما، تتجلى في تكريسه نحو سبعين عاما من حياته، لدراسة وعرض نشوء الدولة العربية، وتاريخ العلاقة المضطربة، بينها وبين الفرس والأكراد والأتراك، بلغة علمية هادئة. تلك العلاقة التي أدت، في النهاية، إلى انهيار الدولتين الأموية والعباسية، وقيام دويلات أقلوية إسلامية، على أنقاضهما.

في ضوء ما حدث ويحدث، في المشرق والمغرب، أستطيع أن أقول إن الدولة العربية المعاصرة تواجه ما واجهت الدولتان العربيتان التاريخيتان، من خطر الضمور. الانحسار. التفتت، بفعل عوامل الحت والتعرية التي تحدثها معاول أقلوية، بل ومعاول عربية - مع الأسف - في جسمها ورقعتها.

منذ الاستقلال في الأربعينات والخمسينات، بات التناحر والتنافر سمة العلاقة الرسمية بين الجيران الأشقاء. النزاع المغربي / الجزائري مثال سلبي صارخ: نزاع حدودي ضيق في الستينات، تطور إلى حرب جزائرية بالواسطة ضد المغرب، بعدما استطاع استرداد صحرائه من الاستعمار الأوروبي (1975).

تفاءل العرب خيرا بعبد العزيز بوتفليقة. قطع الرجل صحراء الشوك. عاد إلى الجزائر رئيسا (1999). لكن يبدو أن نجاحه في استيعاب الصراع الاجتماعي مع تنظيمات العنف الديني، لم يرقَ إلى إقناع نفسه، ودوائر صنع القرار في نظامه، بإنهاء نزاع مع المغرب، مكلف. ومصطنع.

تسنى لي أن أزور الصحراء المغربية، في ذروة الاقتتال في الثمانينات. كم أتمنى، الآن، لو أن بوتفليقة وزعماء الجزائر، مدنيين وعسكريين، شاهدوا على الطبيعة جيشا عربيا، جرى استنزافه بمتسللين، لا يمكن أن يشكلوا شعبا بلا تاريخ. ولا أن يقيموا دولة. بلا كيان. وبلا موارد.

أتمنى أن يستوعب الجزائريون ما قال لي آنذاك ضابط صحراوي كبير في الجيش المغربي: «ظل المغرب يواجه الخطر دائما من الشمال (أوروبا). اليوم، يأتي الخطر من الجنوب. عبر هذه الصحراء، عبرت القوافل المغربية طيلة قرون، حاملة إلى أفريقيا رسالة العرب: دينا ولغة».

نجحت الجزائر في تصفية استعمار استيطاني، في أنبل نضال بطولي عربي، فيما لم ينجح عرب المشرق في تصفية استعمار استيطاني مماثل في فلسطين. حان الوقت للتسامي فوق الكبرياء، لإطفاء نزاع مل منه الوسطاء، عربا وأجانب. لكي تستأنف الجزائر، مع شقيقاتها المغربيات، مسيرة اتحاد مغاربي، قادر على التعامل والاستفادة، من أقوى اتحاد اقتصادي وسياسي في التاريخ: الاتحاد الأوروبي.

حصل العرب على دولة الاستقلال الوطني. لم يحصلوا على دولة الوحدة القومية «الممنوعة» دوليا. دولة الاستقلال أشاعت ثقافة التجزئة. صار للسيادة نشيد. علم. حدود. أدب. رموز. جمارك. رسوم. شعارات. احتفالات. صار لها دساتير قومية. ضدها قوانين وطنية! تسيِّج التمايز والتباين بين «خصوصيات» مجتمعات الأمة الواحدة.

لذلك، كان بديهيا أن يضيق استقلال التجزئة. يضمر. يشحب. يتراجع من حدود الوطن، إلى حدود الطائفة. القبيلة. العشيرة. هكذا حدث في عراق صدام. وهكذا يحدث في عراق الاحتلال: تعالت صيحات الدعوة إلى مزيد من التجزئة للدولة الوطنية، باسم اللامركزية. الفيدرالية. الحكم الذاتي.

بعد نحو خمسين سنة من انهيار دولة الوحدة المصرية / السورية، ما زالت بقايا هياكل الانفصال العظيمة قادرة على تأليف الكتب. والظهور على الشاشة. والتدوين في الإنترنت، لتكرر ذرائع ضرب دولة الوحدة، بحجة «اعتدائها» المزعوم على الخصوصية المحلية السورية.

بحكم عملي الصحافي، كنت شاهدا على التاريخ. كانت هناك أخطاء مشتركة. لكن زيف المبالغة السورية كان أكبر. كان بإمكان السوريين ممارسة النضال السياسي، من أجل الديمقراطية، من داخل الدولة، لا بضربها بعنف الانقلاب العسكري.

اليوم، يعيش اليمن ظروفا مماثلة. العرب العاربة باتت أعرابا تعبث بالنسيج الاجتماعي، باسم المذهب. الطائفة. الحنين للتقسيم. للانفصال. أو تحت صرخات التكفير. واستعداء العالم على اليمن والعرب. ينسى اليمنيون الجنوبيون العبرة السورية. ينسون أن النضال السياسي هو السبيل الوحيد لإصلاح الدولة. والنظام. ينسون أن التربية والتعليم هما أداة الثقافة الوحدوية، للتخفيف من فارق الوعي بين الشمال والجنوب.

أعتقد أن العرب، داخل العراق وخارجه، باتوا شبه مسلِّمين بإمكانية قيام دولة كردية في الشمال. بقي أن يقتنع الجيران الأقوياء، من فرس وأتراك. على أية حال، فالجغرافيا السياسية تفرض على الدولة الكردية أن تنهج سياسة صداقة وحسن جوار مع الجيران. خصوصا مع سورية التي تشكل النافذة البحرية الأقرب لها.

غير أن التعايش التاريخي، بحكم الاندماج والزواج، بين العرب والأتراك والأكراد، يجب أن لا يغري الحركات القومية الكردية بالظن، أن بالإمكان إعادة «تكريد» الأسر التي تعربت ثقافيا واجتماعيا، أو انتزاع أراض سورية، لضمها إلى الدولة الكردية.

المثقفون والساسة القوميون، من بعثيين. ناصريين. مستقلين. مسؤولون عن سوء التفاهم بين الحركات العربية القومية والأقليات العرقية، كان عليهم، منذ البداية، البرهنة على إنسانية الحركة العربية، وحث النظام القومي على التعامل باحترام ومساواة مع هذه الأقليات، والتذكير الدائم بأن النضال العربي للتحرر من الاستعمار، شارك في قيادته زعماء من أسر كردية وتركية مستعربة (هنانو. مردم. القوتلي... في سورية).

في المغرب العربي، لعل التعايش التاريخي الطويل بين العرب والأمازيغ (البربر) يتيح للنظامين المغربي والجزائري تبديد أوهام الانسحاب. العزلة. التقوقع. الانفصال، التي شجعها الأوروبيون. أما المجتمع المصري الأكثر تماسكا وانسجاما، في نسيجه الإسلامي / القبطي، فهو كفيل بوعيه الوطني، وتسامحه الديني، بتبديد موجة التزمت والتعصب العابرة بأحداثها المفجعة.

عروبة السودان غير مسؤولة عن أخطاء حركات الإسلام السياسي السوداني، المدني والعسكري، في محاولة أسلمة الجنوبيين الوثنيين والمسيحيين. كان الادعاء بأن «أهل الذمة» الجنوبيين سيعيشون راضين. قانعين برتبة، هي دون المساواة في المواطنة، نوعا من الهراء الفارغ الذي ما لبث أن فجر حربا أهلية دموية طويلة.

ثم ما لبث سوء تعامل النظام الديني العسكري مع المسلمين السودانيين الأفارقة أن فجر أحداث دارفور الدامية. كل ذلك أدى إلى انسحاب الأقليات العرقية الأفريقية، من مشروع الدولة الواحدة، وصولا إلى التماس الانفصال الذي يبدو أنه بات قاب قوسين أو أدنى، في الجنوب.

هل مصير الدولة العربية المعاصرة، كمصير الدولتين العربيتين التاريخيتين الأموية والعباسية؟ هل ستعاني دولة الاستقلال العربي المتجزأ، من مزيد من التشطير. والتمزيق. والتفتت، بانسحاب مزيد من الأقليات العرقية والدينية الخائفة أو الغاضبة؟

كما طرحت السؤال، عن ظاهرة «الحكومة التوافقية»، على علماء الاجتماع والتاريخ العرب، في الثلاثاء الفائت، أعود إلى طرح السؤال عليهم، عن إشكالية الأقليات، في الدولة العربية المعاصرة. لعل لدى هذه النخبة الأكاديمية الممتازة التي مثلها الراحل الكبير عبد العزيز الدوري، جوابا أوسع بكثير، مما عرضت وقدمت، في هذه الرقعة الصغيرة، من مساحة الرأي في صحيفة يومية.