الاستفتاء.. انتحار للجنوب واغتيال للشمال

TT

وصف تشرشل في كتابه (حرب النهر) وادي النيل بالنخلة، فأرض الدلتا عند قمة الوادي هي خضرتها وخصوبتها كجريد النخيل ويلتوي الجذع قليلا إذ ينحني في أرض السودان. ولكن الشبه يعود كاملا جنوب الخرطوم، وتبدأ جذور الشجرة تتوغل عميقا في السودان (الجنوب).. وينهي وصفه بالقول: «فأي خير في الجذور والأرض الطيبة إذا فصلت الساق». رغم هذا الوصف الجميل فلقد عملت بريطانيا بكل ما أوتيت من قوة على ألا تترك الوادي إلا وهو مقطوع الرأس ووجدت ضالتها في قادة الثورة المصرية عديمي الخبرة ورئيسهم السوداني (محمد نجيب) الذين وقعوا في فخ ما يسمى باستفتاء تقرير المصير. (كشفت الوثائق السرية البريطانية أن بريطانيا كانت تخشى من وقوع انقلاب ضد الثورة فيعود عدوهم المخضرم حزب الوفد فيفسد عليهم مخطط الانفصال).

على الجانب السوداني كان حزب الأمة (عبد الرحمن المهدي) جاهزا بكل خبث ودهاء لتنفيذ المؤامرة البريطانية لقطع جذع النخلة بقنبلة ذكية تسمى استفتاء تقرير المصير. في غياب المخضرمين من رجال السياسة المصرية وتسلم العساكر الشبان الغر زمام الأمور تم فصل السودان عن مصر.

لم يكن بوسع المملكة المتحدة أن تترك السودان بعد فصله متحدا مع جذوره (جنوبه)، كما سماه تشرشل، فعملت هي ودول استعمارية أخرى مثل بلجيكا وفرنسا على فصل الجنوب، يعاونهم في ذلك حزب الأمة (عبد الرحمن المهدي) نشرت ذلك مجلة «آخر ساعة» المصرية عام 1954.

قامت بريطانيا آنذاك بجعل الجنوب منطقة محرمة يمنع السودانيون والمصريون من السفر إليها، كذلك حرمت على شعب الجنوب الطيب أن يرتدي الثياب السودانية وأجبرتهم على العودة إلى الأسماء البدائية، ناهيك عن إغراقه بالجمعيات التبشيرية، ساعية في ذلك إلى زرع قنبلة أو لغم موقوت إذا انفجر مزق السودان والمنطقة حوله أشلاء وكانت حجتهم في ذلك أن الجنوب منطقة بدائية يجب حمايتها، طبعا كما قامت بـ«حماية» البدائيين اللابريجني في أستراليا ونيوزيلندا بالإبادة والإلغاء واستبدلتهم بالجنس الأبيض.

القنبلة الموقوتة هي نفس القنبلة القديمة (استفتاء تقرير مصير) التي فصلت مصر والسودان والمسرحية هي نفسها مع تغيير في الممثلين والمسرح والجمهور!! يستبدل شمال الوادي القديم (مصر) بالشمال الحالي وهو السودان وتمشي القيادة السودانية نائمة تحكي قصة رجال الثورة المصرية، ولا يكاد الفرد يميز بين سلفا كير (الصورة) وعبد الرحمن المهدي (الأصل) ويبقي النص القديم كما هو ولا داعي لتكراره.. تحرير الشمال من الجنوب، وكأن شمال السودان دولة استعمارية جاءت من أقصى بلاد الأرض واحتلته أو كأن الحكومة السودانية هبطت من السماء فكان لا بد من تشكيل جيش لتحرير السودان تنضم إليه المعارضة.. إلى آخر هذه العبارات.. وفي الحملات الانتخابية تشحن الجماهير وتهيج وتملأ نفوسها بالحقد والكراهية والعصبية ولا تدرك الحقيقة إلا بعد فوات الأوان إن أدركتها.

العجيب أن يقع السودان في هذا الفخ الملغوم بعد مرور نصف قرن ونيف على الانفصال الأول لوادي النيل الذي حكمه فراعنة الشمال تارة وفراعنة الجنوب تارة أخرى في العصور السحيقة، وجدد وحدته محمد علي باشا الذي لم يكن مصريا أو سودانيا وسهر وابنه إسماعيل على حدوده.

ترك محمد علي دولة رحبة تمتد من رحم أفريقيا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط (فمن لا يروق له أن يعيش في وطن هكذا!!) وتعاقبت على الوادي الحكومات الوطنية تارة والفاسدة تارة أخرى إلا أنها كانت تتفق على قدسية وحدة وادي النيل وإن قطع أذرعها أهون من قطع أوصال الوادي (من يقول ذلك الآن من المعارضة السودانية الرخوة؟!).

هل سأل السوداني الجنوبي نفسه؟ شعب الجنوب الطيب الذي لم يعارض الوحدة السودانية - المصرية وطاف بصلاح سالم أرجاء الجنوب، رغم كل المحاولات البريطانية لإفساد رحلته إلى الجنوب، من حقه أن يمنح الوقت الكافي ليعلم من المستفيد من الانفصال؟

إن تسارع الدول الأوروبية الذي تقوده أميركا - وهي ولايات متحدة - إلى دق إسفين الفرقة والعداء بين أفراد ولايات واحدة للإسراع بعملية الانفصال ما هو إلا دليل على خوفهم من أن يفيق السودانيون جميعا شمالا وجنوبا ويفسدون مخطط الانفصال كما كانت تخاف بريطانيا من أن يعود حزب الوفد ومخضرموه إلى حكم مصر قبل أن تتم عملية الانفصال. من حق السوداني الجنوبي أن يسأل نفسه لماذا تقدس أميركا جورج واشنطن الذي حارب من أجل وحدتها وتحرض الآخرين على الانفصال؟ لماذا تسعى دول الغرب إلى الوحدة والتقارب رغم اختلافهم في كل شيء عدا الاشتراك في اللون الواحد؟

الأمر واضح جدا وهو أن همهم الأوحد ليس الجنوب ولكن فركشة السودان، وفركشة السودان لها غرض آخر هو إضعاف مصر التي بها مفاتيح همهم الأول وهو الشرق الأوسط.

مع مرور وقت قليل ستنسى أميركا أن الجنوب قد انفصل من أجلها كما نسيت بريطانيا السودان وزرعت بذور الحرب بين شماله وجنوبه لتدوم نصف قرن. فلم تف بريطانيا بوعودها تجاه السودان بشكل عام ولا بوعودها للتلاميذ الذين أرضعتهم الكراهية لوحدة وادي النيل ومصر بشكل خاص. فها هي نسيت أن تضم السودان إلى تحالف الكومنويلث ونسيت أن تشتري قطن المهدي قبل أن تجف دماء الانفصال ووقفت دائما ضد إرادته ونموه. وليت أميركا تنساه قبل أن تحوله إلى عراق آخر تهرق دم شعبه وتحكم الغرباء فيه وتجعل من شعبه وقودا للحرب القادمة لا محالة مع إسرائيل.

إن أميركا صاحبة اختراع الفوضى الخلاقة وتحريض الطوائف لمحاربة وتعذيب بعضها ستجد في الجنوب متعدد العرقيات ضالتها فتتركه يتصارع وينتحر وقد تسلم أمره لدولة مجاورة كما فعلت مع العراق لتنشغل هي في امتصاص موارده.

من يظن أن الانفصال راحة من وجع الدماغ مخطئ، لأن وجع دماغ الانفصال صداع دائم للشمال والجنوب وليتنا نستوعب درس بنغلاديش التي حاربت وناضلت من أجل الانفصال عن باكستان لتعيش فقيرة مهملة في ظلال الهند.

لماذا نسي الجميع أن الاتفاق مع الحركة الشعبية كان اتفاقا للسلام وليس على الانفصال، فجون قرنق الذي ذهبت به المعارضة السودانية للقاهرة كان يطمح في حكم السودان كله ودخوله في الحكومة السودانية ليس له معنى آخر غير الحفاظ على وحدة البلد الذي يحكمه وهذا ما أكدته نصوص الاتفاق الذي نص على أن يعمل الجميع من أجل الوحدة، لكن مقتل جون قرنق في ظروف غامضة. وهذا ما يحدث دائما لزعماء أفريقيا التاريخيين (يتخلص من الغرب بانقلاب أو قتل ليسهل له التعامل مع الصف الثاني) ومجيء الصف الثاني ينادي علنا بالانفصال للوطن الذي يشاركون في حكمه كان يجب أن يدق ناقوس الخطر للحكومة السودانية فتعلن على الفور أن الاتفاق قد انتهى وتقيل كل عضو في الحكومة يطالب بانفصال الدولة التي يحكمها وتمد يدها للوحدويين في الجنوب وتدير ظهرها للانفصاليين وللاتفاق ككل.

المطالبة علنا بالانفصال أخلت بشروط الاتفاق ومن حق الحكومة السودانية أن ترفض أي استفتاء في الجنوب لأن أي استفتاء يجب أن يشمل السودان كله شماله وجنوبه وعليها أن تفعل الآن مهما حاولت أميركا من تقديم جزرة تلو الأخرى (رفع السودان من قائمة الإرهاب، تقديم مساعدات، رفع اسم البشير) فكل هذا يقدم لأي ذبيحة وهي هنا وطن كبير وعريق. فيا حكومة السودان محكمة التاريخ ستكون قاسية إن لم تقفوا بصلابة في مواجهة هذا الامتحان الصعب.

وأين الفيتو المصري؟

مارست تركيا حقها واستخدمت حق الفيتو ضد انفصال الأكراد عن العراق وهددت وتوعدت كل من تسول له نفسه أن يساعد الأكراد على الانفصال وتكوين دولة لهم لأنها تعلم جيدا أخطار ذلك عليها. وليس الخطر من بعثرة السودان أو سلة خبز الشرق في المستقبل بأقل من خطر انفصال الأكراد عن تركيا. السودان هو ظهر مصر وكما يقول المصريون: «من ليس له ظهر يضرب على بطنه». انتقلت إليه الكلية الحربية المصرية ومواقع استراتيجية أخرى إبان العدوان الإسرائيلي على العرب. ومصر بما لها من محبة في قلوب الجنوبيين عليها وإن بعدت المسافة وقصر الزمن أن تمد يدها للوحدويين في الجنوب وتساعدهم بكل ما تملك للوقوف ضد الانفصاليين لأن أجنتهم معروفة ووضعت منذ أمد في الأروقة الأجنبية لتجفيف عروق مصر.

انفصال الجنوب شيء جد خطير بالنسبة لمصر وعليها أن تفيق الآن وتستخدم حقها في الفيتو بكل قوة لمنع هذا الانفصال. على مدى التاريخ لم نجد أحدا أعاب على مقاومي انفصال الوطن الواحد موقفهم، نرى ذلك في موقف تركيا من الأكراد، ورأيناه في حرب سيلان ضد انفصال نمور التاميل، فأين كانت أميركا عندما حاربت سيلان بشراسة ضد الانفصاليين.

* كاتب سوداني