خسارة المغرب في تجميد «القرويين»

TT

منذ عقدين من الزمان، على الأقل، تعرف جامعة القرويين العتيدة حالة جمود يكاد يكون تاما. الحال تبدو كذلك متى قارنا حاضر «القرويين» اليوم بما كانت، طيلة قرون عديدة متصلة، تنتصب له من أدوار خطيرة وبما هي في غفلة عما في وسعها القيام به على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. هل العجز بنيوي، فهو يتصل بالمكونات العميقة، أم أن الخلل وظيفي فهو مما تمكن معالجته؟ هل يتعين القول إن الدور التاريخي لـ«القرويين» قد غدا اليوم، لأسباب شتى، غير ذي موضوع وبالتالي يلزم التصريح بانقضاء مدتها أم أن دورا جديدا، مختلفا يناديها وأن علينا أن نحسن الإصغاء للنداء؟ سؤال صعب غير أنه ضروري للمغرب اليوم والجواب عسير لكنه - متى أخلصنا القصد - غير مستحيل.

لننظر في القضية عن كثب ولنحاول الوقوع على بيت الداء والوقوف عند مكامن الخطأ.

تسهم جامعة القرويين، بواسطة المعاهد الأربعة التي يرجع إليها أمر تدبيرها، في تخريج بضع مئات من المجازين كل سنة (كليتان للشريعة، كلية للأدب، كلية لأصول الدين) غير أن المطلوب اليوم غير ذلك على ما سنحاول توضيحه. الحق أن أول ما ينبغي إعادة النظر فيه، بكيفية جذرية، هو على وجه التحديد هذا النوع من التكوين الذي اعتاده الناس من أقدم جامعة في العالم مع تطور الأزمنة وتبدل المطالب. نحن نحسب أننا بالدعوة إلى مراجعة «المألوف والمعتاد» نقترب من وضع اليد على بيت الداء.

ظلت «القرويين»، طيلة قرون كثيرة، تؤمن جملة من المهام السياسية والاجتماعية والتعليمية. فقد كانت بيعة السلاطين تتم في أرجائها وبمباركة من علمائها وكان السلطان يتوجه إلى العلماء بطلب الرأي الشرعي في القضايا العظمى التي تعرض له مثل إعلان الحرب على دولة أو قبول الصلح على شروط معلومة، وبالجملة كانت لـ«القرويين» كلمة في الشؤون العامة كما نقول في لغتنا اليوم. وكان لـ«القرويين» أثر في الأمور التي تتصل بالحياة الاجتماعية عامة فعلماؤها هم المقصد الأول في طلب الفتوى. أما في مجال التعليم فقد كانت هي المصدر الأساس في إعداد الأطر العليا والمتوسطة (القضاة، والعدول، وكتاب الدواوين، والفقهاء..) وبالجملة فقد كانت «القرويين» تشغل من الوجود السياسي والاجتماعي والتعليمي والثقافي المحور والأساس. غير أن الأمور سرعان ما أخذت تأخذ مجرى آخر منذ استرجاع المغرب استقلاله. فمن الناحية السياسية لم تعد الجامعة العتيدة تؤمن الدور التقليدي الذي كان لها، فمنذ إقرار الدستور المغربي أصبح الشأن في البيعة آخر إذ اتخذ صورة جديدة عصرية في غير تعارض مع المقتضيات الشرعية وبموجب الدستور اتخذت الاستشارة طابعا جديدا هو الاستشارة الشعبية المباشرة عن طريق الاستفتاء، أما مهمة العلماء فقد اتخذت صورة جديدة كذلك. ومع استعادة المغرب حريته السياسية أخذت الكليات والمعاهد والمدارس العليا تتوالى تباعا، وبالتالي فـ«القرويين» أخذت تفقد مكانتها التاريخية في إعداد الأطر العليا والمتوسطة إذ أصبحت الجامعة العصرية تقوم بذلك على النحو الذي يقتضيه بناء الدولة الحديثة وأخذ دور الجامعة العريقة ينحصر، أكثر فأكثر، في التعليم الديني المحض كما أنها، من جهة أخرى، لا تقدر على منافسة كليات الآداب والحقوق بله مدارس الإعلام والإدارة - دعك من الطب والهندسة والعلوم الدقيقة والتكنولوجيا.. ونحن لو أنصفنا لقلنا إن ما يتم تدريسه في كل من كلية اللغة العربية وأصول الدين هو مما تنهض به، على أفضل الوجوه شعب اللغة العربية في كليات الآداب.

وكذا شعب الدراسات الإسلامية والفلسفة، ونحن لو أنصفنا لقلنا أيضا إن ما يدرس في كليتي الشريعة التابعتين لـ«القرويين» هو مما يدرس أغلبه في كليات الحقوق (القانون) ومما تدرسه هذه الكليات بمناهج عصرية فضلا عن التزود بالمعارف الحقوقية والسياسية العامة. إنني إذ أكتب ما أكتب فإنني أتحدث بصفتي رئيسا سابقا لجامعة محمد الخامس وعميدا سابقا لكلية الآداب بها. متى نظرنا إلى «القرويين» من حيث أنها مجال لتكوين الأطر فإن الصراحة الواجبة في مقامنا هذا تحملنا على القول إنه في وسعنا القول إن ذلك مما تقوم به الجامعات العصرية في المغرب على أفضل الوجوه، بل ومما لا تطيقه الجامعة العريقة أحيانا كثيرة.

الملاحظ أن «القرويين» تعيش وضعا غير طبيعي وغير مفهوم من الناحية الإدارية. ذلك أن «القرويين» وحدها دون باقي الجامعات المغربية تسير من قبل رئيس بالنيابة، و«القرويين» على هذا الحال منذ ما يربو على 12 سنة. الحق أن الوضعية هي على ما ذكرنا والحق أن الاحتجاجات منطقية تماما ومقبولة كلية ففي الأمر شذوذ لا مبرر له. غير أن الشأن في «القرويين» غير ذلك متى طرحنا السؤال الجذري المتعلق بالدور الذي يكون للجامعة العريقة أن تلعبه اليوم بعد إذ أبدينا ما أبدينا من ملاحظات وقدمنا من تنبيهات.

الرأي عندي أنه ليس لـ«القرويين» أن تكون مشابهة في شيء للجامعات المغربية العصرية فضلا عن أنها لا تثبت عند المقارنة، ولكن «القرويين» حيوية في الوجود المغربي ويا لها من خسارة جسيمة تصيب البلد من تعطيلها بله إقبارها.

جامعة القرويين منارة شامخة يطل المغرب منها على أفريقيا وإشعاعها، في جوانب منه، يصل إلى أوروبا وهي تكون كذلك متى كانت مجالا لإعداد العلماء على النحو الذي تقتضيه الأزمنة المعاصرة. والأزمنة المعاصرة تقتضي، في بلاد الإسلام، إعداد علماء في الدين من طينة جديدة ويقتضي الإعداد المطلوب في ذلك التوافر على قدر هائل من الشجاعة في الرأي والجرأة في التنفيذ. ما يقضي به حكم الوقت، كما يقول أصحاب أصول الفقه، هو التوافر على علماء في الشريعة لهم من اللغات الحية نصيب غير يسير، لا بل إن المطلوب هو إجادتهم لها قراءة وكتابة وقدرة على الجدل والحوار.

إن الأساس يظل، بطبيعة الأمر، تهيئة علماء في الشريعة الإسلامية يرتفع فيها علمهم إلى المرتبة التي تمكنهم من الإفتاء، أي الاجتهاد في الدين على النحو المطلوب شرعا، مع الأخذ من المعارف العصرية بنصيب وافر. نعم، إن الأمر يتعلق بتكوين صفوة الصفوة والكلفة في ذلك مرتفعة لا شك في ذلك غير أن ذلك لا يضير الدولة ولا يرهقها، بل إنه مما يحفظ على المغرب سمعته ومكانته التاريخية وما هو مدعو بحكم التاريخ والموقع الجغرافي أن ينتصب له من مسؤولية.

توجد جامعة القرويين اليوم في مفترق طرق والدولة المغربية تتحمل مسؤولية تاريخية جسيمة من أجل الاهتداء إلى الطريق القويم الذي يمكنها من معاودة السير واستعادة المجد الغابر، بل إن في الوسع كتابة صفحة جديدة ناصعة، صفحة تمكن من تحقيق خطوات ناجحة على درب التجديد في الدين وإتاحة الجمع السعيد بين الأصالة والانتماء الإيجابي إلى الأزمنة المعاصرة.

الأمر يقتضي وقفة مساءلة ويستوجب الاجتماع حول مائدة يكون فيها تبادل الرأي والإفادة من التجارب والخبرات.