أوباما يؤكد توسطه للطيف السياسي الأميركي

TT

استغرق الأمر شهرا حتى يوضح باراك أوباما أنه استفاد من خسارة حزبه لانتخابات التجديد النصفي وأن هذا الوقت لم يذهب سدى. ومن المرجح أن المؤرخين للمستقبل السياسي سوف يسجلون عودته - وإعادة انتخابه لولاية ثانية، إذا تحقق هذا الأمر - بسبب القرارات التي اتخذها في ديسمبر (كانون الأول) الحالي. فقد استعاد أوباما، خلال الأيام القليلة الماضية، زمام المبادرة من الجمهوريين المنتصرين فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمة الاقتصادية، وأبعد نفسه عن تيار اليسار داخل حزبه وحافظ على وجوده بقوة في منطقة تخاض عليها المعارك الانتخابية ويتحقق النصر لمن يلتزمها، ألا وهي منطقة الوسط.

فبعد أن فضل الإقرار بالواقع ووافق على طلب الجمهوريين عدم إلغاء أي من التخفيضات الضريبية التي أقرتها إدارة الرئيس بوش وحصوله على سعر أفضل مما توقع الكثير لتنازلاته، فإن أوباما قد فعل تقريبا كل ما هو ممكن فعله الآن لخلق بيئة اقتصادية مواتية لحملة انتخابية ناجحة في عام 2012. وبإضافة الدعم الذي ستقدمه اتفاقية التجارة التي وقعت مع كوريا الجنوبية لقطاع صناعة السيارات، وولايات وسط غرب الولايات المتحدة، فإن ساحة المعركة الرئيسية التي ساعدت الجمهوريين على تحقيق النصر في انتخابات عام 2010، بدت قابلة للتعديل.

ولا يزال أوباما يواجه تحديات كبيرة - في إدارة الملفات الخاصة بمناطق العالم الساخنة بدءا من أفغانستان ومرورا بكوريا الشمالية وإيران، وحل السؤال العصي حول كيفية تجنب خطر الديون وعجز الميزانية.

ولكن بعد فترة من التأرجح بدت فيها صورته القيادية مهزوزة، بدأ أوباما يستعيد تركيزه كليبرالي عملي - لا كاشتراكي متشدد كما يحاول الجمهوريون إظهاره - ولكن كرئيس أكثر عملية وتواضعا من منتقديه في الجناح الليبرالي في الحزب الديمقراطي. لقد مهد الطريق لمشروعات قادمة يمكن أن تحول نظام الضرائب المرهق إلى آلية محفزة للنمو - مما سيضطر الجمهوريين إلى توضيح سبب تفضيلهم خدمة مؤيديهم من الأثرياء. وهذه هي إيماءة نصر لرئيس يسعى للحصول على فترة ولاية ثانية.

ومن دون أن يحتاج إلى اللجوء إلى سياسة إعادة التموضع التي لجأ إليها الرئيس بيل كلينتون لاستعادة زمام المبادرة من الجمهوريين المنتصرين في انتخابات عام 1994 والتي مهدت له الطريق للفوز بولاية ثانية، تمكن أوباما من أن يضع نفسه حيث يريد أن يكون: في وسط الطيف السياسي الأميركي. وبإذعانه المؤقت للحزب الجمهوري في إصراره على الحفاظ على التخفيضات الضريبية الخاصة بالطبقة العليا، تجنب أوباما تهديدا أكبر لعدد أكبر من الناخبين: وهو زيادة الضرائب التي يمكن أن تعرض الانتعاش الاقتصادي الهش للخطر بسهولة.

وفي المقابل، نجح أوباما في تمرير قانون يمد إعانات البطالة، والأهم من ذلك، تخفيض الضرائب المفروضة على الرواتب والتي من شأنها أن تعطي دفعة كبيرة للنمو الاقتصادي. وعندما يرى الناخبون أثر ذلك على زيادة رواتبهم، فإن أعضاء الكونغرس الديمقراطيين سوف يجدون صعوبة في الاستمرار في تأسفهم على ضياع فرصة للدخول مع أعضاء الحزب الجمهوري في معركة قديمة حول الضرائب المفروضة على الأثرياء.

كما أن مبلغ الـ900 مليار دولار الذي ستضيفه هذه الصفقة إلى الدين القومي سيزيد الضغط على الكونغرس والرئيس أوباما للقيام بنوع من التعديلات الصارمة في الميزانية التي حددتها اللجنة الرئاسية المختصة بدراسة العجز.

ولكن هذا ببساطة يوفر فرصة أكبر لإصلاح النظام الضريبي، وهي جهود أصبح أوباما الآن في وضع جيد تماما لقيادتها. ونتوقع أن يقدم البيت الأبيض خطة للحد من الضريبة المفروضة على الأفراد والشركات ويسعى لسد آلاف الثغرات في قانون الضرائب التي يستفيد منها أصحاب المصالح الخاصة. وهذا سوف يضع الجمهوريين في مجلس النواب في موقف يتعين عليهم فيه أن يختاروا بين التعاون وإعطاء أوباما انتصارا كبيرا أو قبول الازدراء العام للدفاع عن الوضع الراهن ضد رغبات الناخبين من أعضاء حركة «حفل الشاي» في جميع أنحاء البلاد. وفي حين أن هذا سيفتح الباب أمام مغامرة للرئيس، فإن أحداث الأسابيع القليلة الماضية كشفت أيضا انفصالا واضحا بين الرئيس والجناح اليساري داخل أعضاء حزبه في الكونغرس والذين لا يحظون بشعبية.

وكان انفصال أوباما عن هذا الجناح الذي تتزعمه بيلوسي قد اختمر من فترة طويلة، لكنه جاء بصورة واضحة عندما انتحب الكثير من أعضاء مجلس النواب بسبب صفقة الضرائب والميزانية التي توصل إليها أوباما مع الجمهوريين.

وإذا لم يكن هذا تراجعا عن مواقف الحزب، فإنه على الأقل مماثل لقرار بيل كلينتون التوقيع على مشروع قانون إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية عام 1996 الذي صادق عليه الكونغرس الجمهوري - وهي الخطوة التي قضت على حملة بوب دول لخوض انتخابات رئاسية قبل أن تبدأ.

لقد استخدم أوباما المؤتمر الصحافي الذي عقده يوم الثلاثاء الماضي للتعريف بنفسه، وبشكل أكثر وضوحا من أي وقت مضى، كمعتدل حاسم - ورجل يدرك تماما أن الحلول الوسطى هي المفتاح لخدمة عدد أكبر وأكثر تنوعا من الناخبين، بدلا من مجاراة بعض المعايير الأيديولوجية المرتكزة على النقاء الفكري. وكان هذا هو أفضل عرض لأوباما خلال أشهر عدة.

* خدمة «واشنطن بوست»