تسريبات «ويكيليكس».. كيف تفسر سياسيا وحضاريا؟

TT

1) «نحن الساسة الأميركيين في واشنطن قد قررنا - بناء على أمر أو ضغط صهيوني - أن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في أرض الفلسطينيين لا يمثل عقبة في طريق السلام، وأن شرط إيقاف الاستيطان ليس هو القاعدة الأفضل في عملية المفاوضات بين الطرفين».

2) «إن إسرائيل صمدت ولم ترضخ للمطالب الغريبة والمتطرفة للأميركيين، ومع ذلك لم تحدث كارثة بسبب استمرار الاستيطان، وحتى الأميركيون لم ينتقدونا!».

هذه «البجاحة» التامة، أو الصدمة الدبلوماسية السياسية الصاعقة: لم ترد في وثيقة من الوثائق الدبلوماسية التي نشرها موقع «ويكيليكس».. بل جاء النص الأول على ألسنة دبلوماسيين أميركيين (رسميين) في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية الأميركية!.. وجاء النص الثاني على لسان داني دايان الأمين العام الصهيوني لـ«مجلس المستعمرات» الصهيوني!

هذا لسان حال القوم، ولسان مقالهم، أي أنهم يعالنون - بلا حياء ولا ضمير ولا مسؤولية - بما يهدم حقوق الإنسان، ويظلم شعبا كاملا عبر استباحة أرضه بالتوسع الاستيطاني المبرمج - بعد الاحتلال العام. وإذا كانوا يجاهرون بهذا «الطغيان» والجور، فلماذا ينافقون في لوم وتكفير جوليان أسانج، ويطالبون باغتياله بتهمة أنه قد «كشف» عما يجب كتمانه، وفضح ما يجب أن يحاط بسرية مقدسة؟!

إن وثائق «ويكيليكس» لم تنشر أخطر ولا أفحش ولا أظلم مما صرح به الرسميون الأميركيون - علانية - في شأن القضية الفلسطينية التي لن يبقى منها شيء إذا استمر التوسع الاستيطاني - بما في ذلك القدس الشرقية ذاتها. فالزمن مفتوح - بإطلاق - أمام قوات الاحتلال الإسرائيلي، بمعنى أنه سيجري، بل جرى فعلا ترحيل القضايا الأخرى كافة إلى مستقبل مجهول، وقبل الوصول إلى هذا المستقبل المجهول تكون قوات الاحتلال قد التهمت كل شيء، وعندئذ يقال للفلسطينيين: نأسف كثيرا، فليس ثمة شيء نتفاوض عليه!

ولنعد إلى ظاهرة «ويكيليكس» التي عرضنا لها في مقال الأسبوع الماضي (العالم العريان.. بقوة سلطان العلم.. واستحقاق الشفافية)، فقد خاض الناس - في عالمنا هذا - خوضا شديدا متشعبا في تفسير هذه الظاهرة.. وكما قلنا في مقال الأسبوع الماضي، فإن التفسير الموضوعي لهذه الظاهرة يمثل في محورين اثنين: محور سلطان العلم وقوة التكنولوجيا.. فما كان لجوليان أسانج ورفاقه أن يبلغوا ما بلغوه من استدعاء المعلومة ثم بثها على أوسع نطاق لولا قوة تكنولوجيا المعلومات. والمحور الثاني هو: استحقاق مبدأ الشفافية الذي تغنى به الغرب كثيرا، ولكن بكى منه كثيرا عندما طبق عليهم بما يكشف عن مستورهم.. وهذان المحوران بمثابة نموذجين أو مفتاحين للتفسير فحسب، وإلا فإن أبواب التفسير ونوافذه جد واسعة، وجد متعددة، ومنها:

1) هناك مسلمة متفق عليها وهي: أن الوثائق السرية حقيقية غير مصطنعة، وسليمة غير محرفة. وهنا ينشأ سؤال مركزي وهو: كيف جرى تسريب هذه الوثائق المهمة؟.. من التفسيرات ما يقول: إن التسريب جرى على يد أميركية «محترفة وغير هاوية»، بمعنى أن التسريب إنما هو صورة من صور الصراع الحاد داخل أجنحة متصارعة في صميم المؤسسة الأميركية - العسكرية والسياسية والإدارية والاقتصادية. ومما يلحق بنقطة التسريب أسئلة تقول: أين «أمن المعلومات» الذي حصل التباهي به كثيرا؟.. وماذا عن معلومات ربما تكون أكثر حيوية وخطرا؟.. ماذا عن «الأمن النووي»، الذي جرت محاولات اختراقه من قبل؟.. وماذا عن أسرار أموال الدول في أميركا؟.. وماذا عن أمن كثير من رؤساء الدول ذي الصلة بأجهزة أميركية؟

2) من التفسيرات ما يميل إلى رد ظاهرة تسرب الوثائق إلى ظاهرة أوسع مدى، وأعمق جذرا تتغشى المجتمع أو الدولة الأميركية، ومن هنا يربط هذا التفسير بين هذه الظاهرة وظواهر أخرى: مثل الأزمة المالية والاقتصادية.. وأزمة «تجاوز مؤسسات القرار» في اتخاذ القرارات الكبيرة - كشن الحروب مثلا - وفي ذلك يضرب مثل بقرار غزو العراق.. فهناك قرائن تشير إلى تفرد قلة غير منتخبة بتصنيع خميرة قرار الحرب. ومن هذه القلة: بول ولفويتس وريتشارد بيرل.. وأزمة إصابة 45 مليون أميركي بأمراض نفسية وعقلية بسبب البطالة.. وأزمة الميكيافيللية في السياسة الخارجية الأميركية التي ضربت مصداقية أميركا في الصميم، وهو وضع حمل الكثيرين من القادة الأميركيين على تخليق برامج لتحسين صورة أميركا في العالم.. وأزمة تدهور البنية التحتية على نحو مروع. فالإحصاءات تقول: إن ألوف الجسور في الولايات المتحدة مهددة بالتلف والانهيار في وقت قريب.. إلى آخر مسلسل الأزمات الذي يربط بظاهرة تسريب الوثائق.

3) من التفسيرات ما يركز على أن ظاهرة «ويكيليكس» قد عرت «التناقض الحاد في الحضارة الغربية» بوجه عام، وفي الحضارة الأميركية بوجه خاص.. فعماد القيم الأميركية الأساسية ثلاث:

أ) الفردية الإنسانية (التركيز على حقوق الإنسان الفرد أولا).

ب) حق الناس في الحصول على المعلومات وتداولها.

ج) حرية التعبير.. ورابعة مضافة وهي مناداة أميركا - في عصر العولمة - بمبدأ «عولمة المعلومات».. ولقد ظهرت أميركا - وهي تناهض «ويكيليكس» - بمظهر المتناقض مع ذات القيم التي تؤمن بها وتدعو إليها، إذ بدت وكأنها تناهض مبدأ الفردية الإنسانية.. وتصادر حق الناس في الحصول على المعلومات.. وتكبت حرية التعبير.. وتناقض مبدأ «عولمة المعلومات» الذي بشرت به. فحقيقة الأمر: أن جوليان أسانج لم يمارس إلا هذه القيم نفسها، فهو كما تقول أمه: «لقد ربيته ليكون باحثا قويا، وبأخلاق عالية، عن الحقيقة»، وفي المجتمعات الليبرالية لا تلام والدة ربت ولدها على هذه القيم. ويقول أسانج نفسه: «إن موقع (ويكيليكس) هدفه جعل العالم أكثر حرية وتحضرا، والعمل ضد المنظمات الفاسدة التي تدفع الناس إلى الاتجاه المعاكس».. والعبرة في ذلك كله: إعادة تقييم العلاقة مع أميركا، ليس تمهيدا لإنهائها طبعا، وإنما لأجل استنباط أساليب وآليات في التعامل تحمي الذات من تبعات التهور والاستهتار الأميركي. ومن هذه الأساليب: الاحتشام والانضباط في التحدث معهم، فليس سياسيا محنكا من لم يستطع ضبط فمه.