إنهم مختلفون عنا

TT

نعم هم مختلفون، وأقصد بهم الشباب العربي من الجنسين، فلقد وجدت، بمشاهدة التجربة التي خاضتها مؤسسة الفكر العربي في نهاية الأسبوع الماضي في بيروت، أنهم مختلفون، ويبشرون بخير عميم. في مؤتمر «فكر 9»، الذي عقد في بيروت، احتضنت المؤسسة، من بين برامجها المختلفة، جلسات، إما مخصصة للشباب، وإما يشارك الشباب في الجلسات العامة.

ولم تكن المجموعة التي حضرت المؤتمر منتقاة، بل اختير بعضهم من بين من تقدم دون سابق معرفة بهم، وآخرون كانت لهم تجربة أو أكثر في برنامج شباب المؤسسة. وما إن عقدت الندوة حتى وجدت وغيري من الحاضرين أن شبابنا الذين نشتكي في بعض الأوقات من بعض مواقفهم من الحياة قد كذَّبوا ما اعتقدنا. نقاشهم كان عقلانيا يكاد يخلو من الأدلجة التي صاحبت جيلنا إلى فترة متأخرة، وأصابت أيضا من وصل إلى سن الرجولة اليوم من الجيل الحالي. كما وجدت أن فهمهم لشؤون الحياة وشجونها متقدم، وخال من العقد.

شاب مبتسم وقف يسألني النصيحة عن ترشيح كتاب يقرأه، فنصحته ببعض ما أعرف، فزادت ابتسامته اتساعا وقال: لقد قرأت هذا الكتاب.. وأخذنا الحديث، محاولا من جانبي استدراج أفكار منه، قلت: ما أعجبك حتى الآن؟ وكنا في اليوم الأول من المؤتمر، فأجابني بالقول: نجاح قطر، كما ذكر وزير الثقافة القطري، في استضافة المونديال عام 2022، وفسر سروره بأن العرب، ممثلين بقطر، استطاعوا أن يحققوا نصرا سلميا غير مسبوق؛ لأنهم صمموا على أن يفعلوا، فالتصميم على الوصول للهدف هو كسب نصف المعركة، هكذا قال وقد استخلصه من العملية كلها بنتائجها. شاب دون الثلاثين كما أعتقد يستخلص هذه الخلاصة دون عقد ودون تردد، إنه جيل مختلف. وشاب آخر من اليمن، فوجئت بمدى إحاطته بالشؤون العامة، أعرف أن نخبة اليمن تقرأ بغزارة، إلا أن هذا الشاب يعرف عن كُتاب من المغرب وتونس والخليج، مرورا بما تنتجه عقول القاهرة وبيروت.

أما المبادرات التي عرضها الشباب، كجزء من خبرة الجيل الجديد، فإنها لافتة للنظر، وكانت ذات ثلاثة توجهات، الأول: المشروع الصغير، والثاني: الخدمة العامة، والثالث: الاهتمام بالتقنية. وفي المشاهد الثلاثة قدم الشباب ما يسر الخاطر. مشروع صغير لبيع نوع جديد من المثلجات المخلوطة بالقهوة، قال صاحبه الشاب إنه قرأ كيف طور صاحب فكرة مقهى ستاربكس مشروعه الذي أصبح يدر الملايين من جهات حول العالم، فقرر أن يبدأ المشروع، أولا بأهله، ومن ثم جيرانه، حتى أصبحت لديه شركة صغيرة لها أفرع، وآخر اهتم هو وأقرانه بذوي الحاجات الخاصة في منطقة سكنية فكرسوا بعض وقتهم لإيصال هؤلاء إلى الأماكن التي يرغبون في الوصول إليها ومساعدتهم في قضاء حوائجهم، أما الثالث فهو ربما بيل غيتس العربي في المستقبل، له شغف غير معقول بالتقنية الحديثة، خاصة البرمجة على الإنترنت.

إنها خبرات ليست معلقة في الهواء، بل لها علاقة مباشرة بما يمكن تسميته اقتصاد المعرفة، فالشاب المثقف يروي خبرته، والرائد من مجال الأعمال يستعرض تجربته الإنسانية التي يشارك بها زملاءه، ومصمم الألعاب على الإنترنت يخبر الجميع عن مهاراته، وصاحب المشروع الاجتماعي يقدم حصيلة أعمال المجموعة التي أسسها.

قلت إنهم مختلفون عنا، ربما هم جيل العولمة التي لم تتوافر لأجيال عربية سابقة، أو جيل الاتصال الحديث، سمهم ما تريد، ولكنهم جيل مختلف على وجه اليقين. تعاطيهم للتقنية وولوجهم على الشبكات الاجتماعية لافتان، وسرعة تمريرهم بين بعضهم للمعلومات ملاحَظة، وفوق ذلك رؤيتهم للعالم من حولهم، التي هي منفتحة وقابلة للآخر ومتفهمة لصعوبات الحياة.

جرت عادة مؤسسة الفكر أن تحتضن «مقهى الشباب» في مؤتمر سنوي، إلا أن هذا المقهى نما وتطور في السنوات الأخيرة ليصبح جزءا من التيار العام لعمل المؤسسة، وربما يمكن اعتباره نموذجا يُحتذى لمؤسسات أخرى وطنية أو غير وطنية تعنى بهذا الجيل الجديد المليء بالحيوية ومختلف الاهتمامات كليا.

هل يمكن الحديث عن هذه التجربة المتميزة في احتضان تجارب الشباب العربي دون الحديث عن خالد الفيصل الذي كرس جزءا ثمينا من وقته لرعاية المؤسسة وتطويرها، وعلى رأسها الاعتناء بالشباب العربي؟ لا يمكن ذلك بالطبع، فهو وراء الفكرة لما قابلها البعض بشيء من الخفة، ووراءها عند تعثرها نتيجة عدم هضم البعض لفوائدها المستقبلية، ولا بد من القول إنها الآن، بعد أن أثمرت، اتضح للجميع أهميتها، فقد وجدنا جميعا أن هؤلاء الشباب القادمين إلى القيادة في أكثر من موقع، كانت المراهنة عليهم في مكانها الصحيح.

لقد كان الهاجس أن الجيل العربي الجديد يأتي إلى هذه البلاد العربية الممتدة ومعظم أوطانها يعيش على المعونات الخارجية، كما كان الهاجس أن هذا الجيل يأتي منتظرا للوظيفة الحكومية، التي تسد بالكاد رمق عائلة جديدة، وأنه يأتي وأمامه فكر التعصب ونبذ الآخر، نتيجة بيئة الغضب التي يترعرع فيها. كلها كانت أفكارا نظرية وبناء موقف على تجارب سابقة لم تتعرف على آمال ورغبات، وقبل ذلك قدرات، الجيل المقبل. تبين من العينة التي احتضنتها مؤسسة الفكر في بيروت أن الجيل المقبل يخلق فرصه بنفسه، ولا ينتظر كثيرا على أبواب الوظيفة، كما أنه لن يقع بسهولة في حبائل التعصب الأعمى. فإن كانت هذه العينة جزءا حقيقيا من الكل، لا بد من الاعتراف أنه جيل ربما يكون رافعة إلى غد أفضل وهم بالتأكيد مختلفون عنا.