حل السلطة

TT

حين أقيمت السلطة الوطنية، على ما هو أقل من واحد في المائة من الأراضي الفلسطينية، قدمناها للشعب الفلسطيني على أنها الخطوة الأكثر أهمية وفاعلية، نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي نسعى ونلتزم بأن تكون القدس عاصمتها الأبدية.

إلا أن قيام السلطة، وبقرار سياسي وطني اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية وفق برامج المجالس الوطنية التي أجازت إقامة السلطة الوطنية على أي شبر يندحر عنه الاحتلال الإسرائيلي لم يغط ولم يلغ حقيقة أن هذه السلطة كانت نتاج كفاح وطني قادته منظمة التحرير، مما أدى إلى فرض مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية أسفرت أخيرا عن اتفاق أوسلو وعودة ياسر عرفات ومنظمة التحرير إلى أرض الوطن، كما كانت محصلة تفاهم دولي تقف على رأسه الولايات المتحدة وتحت مظلة سياسية تختزل العالم كله في اللجنة الرباعية التي تضم روسيا الحليف الأقرب للثورة الفلسطينية وأوروبا الحليف التاريخي لإسرائيل، والأمم المتحدة صاحبة القرارات التي لا تعد ولا تحصى في الشأن الفلسطيني - الإسرائيلي - العربي، وأخيرا الولايات المتحدة التي حازت على لقب ذي مصداقية دائمة في أمر الصلة بإسرائيل وهو «الحليف المصيري».

منذ قيامها وحتى ظهور أول تلويح بحلها، أنفق العالم على هذا المشروع السياسي عشرات المليارات وراهن على أن هذا الإنفاق سيؤدي إلى إطفاء حرائق الشرق الأوسط، التي تزعج العالم كله وتؤثر سلبا على مصالحه.

ومنذ أول دولار دفع في تمويل هذه السلطة وحتى الآن وإلى أجل غير مسمى يظل مشروع السلطة الفلسطينية في أهم أبعاده وأشدها حيوية مشروعا دوليا لا يملك الفلسطينيون ولا الإسرائيليون حق حله والتحول عنه إلا إذا كان الطرفان أو أي واحد منهما قرر قلب الطاولة على مسؤوليته الخاصة، وتحمل النتائج المترتبة على مجازفة من هذا النوع وبهذا الحجم.

ومنذ قيام السلطة وحتى يومنا هذا، جرت في الأنهار مياه كثيرة ونزفت الأجساد دماء غزيرة، وتحولت أرض المشروع الدولي السلمي من مستنبت لإبداعات السلام والتعايش والانصراف للبناء إلى حقل أشواك عجز العالم كله عن احتواء خطره أو إعادته إلى ما أعد له أصلا وما وعد به في بدايات التجربة الحذرة.

لقد انهارت العملية الكبرى وانبثقت بديلا عنها وعلى نحو منطقي مخاوف من وقوع انفجارات في أماكن متعددة، واندلاع حرائق حيثما تصل امتدادات الصراع العربي الإسرائيلي ولم نر على مدى سنوات طويلة خلت أي محاولة جدية لإنقاذ المشروع الدولي المهم، بل رأينا محاولات متصلة لإدارة أزماته المتوالدة مع التركيز على هدف واحد ووحيد، هو عدم السماح بإعلان الوفاة مع اصطناع آمال هدفها الأساسي أن يتلهى بها الجميع، بينما الطرف الإسرائيلي وحده من يعمل على الأرض بهمة ونشاط وتسارع مبالغ فيه كي يصنع حقائق نهائية تؤثر على نحو حاسم في مستقبل الحل وحدوده وأسقفه.

وفي هذه التقلبات والحرائق والانهيارات، الشيء الوحيد الذي ظل صامدا وربما يتقدم هو السلطة الوطنية، وذلك ليس بفعل ساحر يملك قدرات عجيبة على توفير الحياة رغم طغيان عوامل الموت، بل لأنها الأمر الوحيد الذي تضافرت في إبقائه على قيد الحياة عوامل وقوى مؤثرة تبدأ بمعظم الفلسطينيين الذين ارتبطت حياتهم بالسلطة وما توفره من مصادر دخل وتنمية وإنفاق، وكذلك من خلال وعيهم لأهمية سيطرة السلطة الوطنية على الكثير من جوانب الحياة في بلادهم ومجتمعهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، التعليم حيث يعرف الفلسطينيون الفرق بين أن يدار التعليم من خلال وزارة فلسطينية وبين أن يديره حاكم عسكري ربما يحمل اسم مسؤول التعليم في الإدارة المدنية!!

ومع الفلسطينيين هنالك الأغلبية العربية القريبة والبعيدة التي أسهمت في الإنفاق على هذا المشروع، وإن بكثافة لا ترضينا في كثير من الأحيان.. إلا أنها فوق الإنفاق قدمت الدعم والتبني، إذ لا يجوز أن يفضل العرب عودة الاحتلال المطلق ليفرض نفسه على الشعب الفلسطيني بديلا عن سلطة وطنية يفترض أنها وجدت كاجتهاد آخر في مقاومة التغلغل الإسرائيلي في فلسطين ووضع الأقدام على الطريق المفضي إلى الدولة، رغم الانتكاسات والصعوبات.

ولعل ما هو أكثر أهمية وفاعلية حتى من العرب في أمر السلطة هو العمق الدولي لها، فالسلطة في أول الأمر وآخره استثمار عالمي وليس مجرد مشروع خيري يقول متلقو الدعم من أهله: آسفون، خذوا سلطتكم ولكن أعطونا أموالكم!!

إن مجرد التلويح بحل السلطة كخيار وطني بديل عن الاستعصاء التفاوضي هو نوع من التهديد بتصفية الإنجاز الوحيد إن لم تلب طلبات من نوع التحرير أو التسوية المقنعة.

إن في إسرائيل أصواتا كثيرة تنتظر نهاية كهذه لمشروع الحلم الفلسطيني، ألم يقترح موشي أرينز ضم الفلسطينيين جميعا إلى إسرائيل كخيار أفضل من خيار منحهم دولة مستقلة ذات سيادة؟

إن التلويح بحل السلطة من واقع اليأس التام من استجابة إسرائيل للمفاوضات هو التعبير الموارب بعض الشيء عن العودة إلى زمن الاحتلال بما فيه من تعظيم للاستيطان، وابتعاد كبير عن تحقيق حلم الحرية والاستقلال.

إنني أقترح على كل من يتحدث عن حل السلطة كما لو أنه يتأهب لتقديم إنجاز نادر ومثالي بديلا عن فشل مشروع المفاوضات، أن يتوقف عن هذا الحديث الذي ثمنه الخطر والمر هو انتهاء المشروع الوطني بصيغة النعي المباشر من قبل أهله، وأقترح أن يقال إن السلطة الوطنية إنجاز أمكن الحصول عليه بمشقة، وجرى انتزاعه من براثن من يريدون إلغاء فكرة الوطن الفلسطيني على الأرض الفلسطينية لمصلحة العودة إلى التسكع بين ممرات الأمم المتحدة وصالونات السياسة غير المجدية.

أن يجري التحذير من خطر الاستعصاء السياسي على السلطة ووعودها والرهانات عليها فهذا أمر ضروري وحقيقي ومفيد.

أما أن يقال «لا مناص أخيرا من حلها كي يتحمل الاحتلال أذاها فهذا أمر فيه الكثير من النزق وليس فيه أي قليل من السياسة».