ما الذي بقي من فكرة العروبة؟

TT

ثمة سجال صاخب يجري بين الكثير من المثقفين والسياسيين العرب حول مصائر فكرة العروبة، وما إذا كانت تحمل مقومات البقاء والاستمرار، أم أنها قد فشلت تماما وطويت صفحتها إلى غير رجعة، وهو سجال ليس وليد اليوم أو الأمس القريب، بل تمتد جذوره إلى فاجعة 67 التي رأى فيها بعض المثقفين اليساريين والليبراليين العرب، علامة فارقة على فشل الأيديولوجيا الناصرية وعجزها عن الصمود في وجه إسرائيل. أما الإسلاميون الذين بطش ونكل بهم عبد الناصر فقد رأوا في هذه الهزيمة علامة دالة على نزول العقاب الإلهي بحق ما اقترفه عبد الناصر في حقهم من مظالم.

ومع موجة سقوط المنظومة الشيوعية التي كانت متحالفة معها أغلب الأنظمة القومية بوجهيها الناصري والبعثي فقد أصبحت مقولة فشل المشروع القومي ورثاؤه أكثر ارتفاعا ومجاهرة، وباتت تنبعث من عروبيين تائبين ويساريين وليبراليين وإسلاميين. بيد أن ما وضع التوجهات العروبية القومية موضع المحاكمة المفتوحة، هو الغزو الأميركي للعراق الذي قوض أكبر وأهم الأنظمة الحاملة لفكرة العروبة في المنطقة، أعني بذلك نظام صدام حسين الذي لم يتمكن من الصمود في وجه الآلة العسكرية الأميركية العاتية سوى بضعة أسابيع. المشكلة في هذا السجال الصاخب الذي يجري في الساحة العربية أنه تحول إلى صراع خنادق أيديولوجية متقابلة بين من ينافح عن سجل القومية العربية بخيره وشره، ويلتمس لها ما أمكنه من المعاذير والمسوغات، ومن يريد محاكمة الخصم والحمل عليه، ولا هم له سوى تجميع حيثيات الإدانة وإصدار حكم الإعدام وليس أكثر من ذلك. إن مثل هذا السجال الذي يجري في الساحة الفكرية والسياسية ودوائر الإعلام في العالم العربي يظل أمرا محمودا ومطلوبا، لو أنه قام على أساس من الرغبة في فهم وتقييم حقبة فاعلة ومؤثرة في تاريخ العرب الحديث ووزن مقادير النجاح من الفشل فيها، بعقل وقلب مفتوحين، إلا أن ما يجعل هذا النقاش عبثيا وعديم الفائدة في الكثير من الأحيان، هو أنه يقوم على ثنائية الأسود أو الأبيض المطلقين، وتصفية الحسابات لصالح هذا المعسكر أو ذاك.

وهنا نأتي إلى تقييم الفكرة العروبية بشيء من التوازن وبعيدا عن آفتي المدح والذم الرائجة في سوق الكتاب والسياسيين العرب.

أولا: من الواضح أن الفكرة العروبية، قد أخذت شحنة عقائدية مغلقة كادت ترتقي بها إلى مصاف العقائد الأيدلوجية الصارمة، ومن ذلك ادعاءاتها النظرية المشطة في تقديم إجابات فلسفية كبرى على قضايا المصير الوجودية، ومسائل الأخلاق والقيم والفن والاقتصاد والسياسة وكل شيء. فمن يقرأ أدبيات ميشال عفلق أو زكي الأرسوزي وساطع الحصري وغيرهم من المنظرين العروبيين، يخيل إليه أن القومية العربية تقدم الإجابات النهائية والقاطعة، على طريقة أنت تسأل والقومية العربية تجيب. ولا شك عندي أن الإيديولوجيات الشمولية الكبرى التي غمرت القرن العشرين، وخصوصا الشيوعية قد مثلت نوعا من الضغط الفكري على الجيل الثاني من منظري القومية العربية باتجاه هذا النزوع العقائدي الطاغي. وحتى الناصرية التي تخلقت في حقيقة الأمر من رحم أزمات النظام الملكي المصري وغضب جيل الشباب من بين الضباط المصريين، وولدت من موقع الشعور العفوي بترابط الوطنية المصرية بالحلقة العربية قد تحولت هي نفسها عند بعض المفكرين القوميين العرب، مثل المرحوم عصمت سيف الدولة إلى نظرية واعية ومكتملة لها كلمتها النهائية ومفاتيحها السحرية لسائر المشكلات والقضايا.

ثانيا: إن القومية العربية قد تم إكساؤها طابعا تبشيريا رومانسيا يتمحور حول النداء الباطني للتاريخ «أمة واحدة ذات رسالة خالدة» وحول الزعامة السياسية الملهمة، وكأن القوميين العرب أرادوا أن يجعلوا من القومية العربية عقيدة ودينا له طقوسه ومقدساته وأيقوناته الدنيوية نظير العقائد والأديان الكبرى.

ثالثا: يجب أن نضيف هنا أن فكرة العروبة قد أخذت عند بعض القوميين طابعا عرقيا جوهريا لا يمكن الدفاع عنه بأي حال من الأحوال، وكأن العربي وفق هذه الرؤية هو هبة من السماء بالجبلة والطبيعة، أي ذاك الذي تسري فيه الدماء العربية النقية مقابل أعراق وأجناس أخرى أقل شأنا ومكانة منه، وهي أفكار منحدرة من تأثيرات القومية الألمانية المتمحورة بدورها حول رفعة الجنس الآري على نحو ما نظر لها فيخته، فضلا عن ردود الفعل عن النزعة الطورانية التركية على خطاب الجيل الثاني والثالث من القوميين العرب.

وهنا أقول إن هذا الجنوح العقائدي الرومانسي، وهذا الادعاء العرقي الجوهري للعروبة، هو من مظاهر الوهن والخلل في الفكرة العروبية التي لا يمكن تسويغها أو الدفاع عنها بأي حال من الأحوال، بيد أن هذا لا يعطي مشروعية لإلقاء الرضيع مع الماء الملوث على ما يقول المثل الإنجليزي. فكل هذه الهنات التي صاحبت مسار العروبة لا يلغي الحاجة إلى تقليب صفحاتها ونخل مسارها بروية وسعة بصر وبصيرة، للوقوف عند ما هو أخلال وعثرات يتوجب تداركها بكل جرأة وصراحة، وعند ما يمثل مكاسب يتوجب الحفاظ عليها وتعزيزها. واحدة من المشكلات الكبرى في الرقعة العربية تعود إلى هذا النزوع العدمي في قراءة مسار الفكر والتاريخ العربيين، بما أفقد التيارات الفكرية والسياسية المتلاحقة فضيلة التعلم من بعضها البعض، أو مراكمة مسار الوعي والخبرة السياسية، مثلما حرم المجتمعات العربية رسوخ مؤسساتها وانتظام خط سيرها. تذكرنا الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت بأن العبقرية السياسية الرئيسية للفكر السياسي الحديث، والتي طورها الآباء المؤسسون للثورة الأميركية خلافا لأقرانهم من رجالات الثورة الفرنسية في الانتباه إلى أن فكرة بناء المؤسسات الاجتماعية والسياسية، هي في الأساس محكومة بمحاولة التغلب على قدر الموت وتاريخية الكائن البشري، أي ضمان الامتداد والاستمرار رغم الفجوات والتقلبات التي يفرضها حدث الموت الذي لا مهرب منه.

حينما صعد القوميون العرب في موجة الانقلابات العسكرية للخمسينات والستينات لم يروا في الليبراليات العربية التي أطاحوا بها سوى شر مستطير وعمالة مطلقة للإنجليز، ولم يروا فيها شيئا يستحق الحياة، لذلك أتوا بسرعة البرق على ما تبقى من مؤسسات سياسية وتقاليد ديمقراطية على هشاشتها قد ورثوها من الملكيات السابقة، وحينما جاء الإسلاميون من بعدهم لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة تجارب أقرانهم وأسلافهم القوميين فأعادوا الكثير من أخطائهم والسير على خطاهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. ما فعله الإسلاميون السودانيون مثلا ليس إلا استعادة متأخرة ومشوهة لزملائهم القوميين الذين استلموا الحكم بقوة السلاح، واستهوتهم شهوة السيطرة على الأجهزة، وهكذا بدت التيارات السياسية العربية وكأنها تعيد إنتاج نفس الأخطاء وتكرر ذات التجارب تقريبا، أي هي تشتغل بروح كلما جاءت أمة لعنت أختها وليس بروح الرسالة الخاتمة «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

ما ذكرناه سابقا يدعو إلى إعادة فكرة العروبة إلى نصابها الطبيعي باعتبارها رابطة سياسية عامة تمثل حاجة عملية لدى العرب، وليست نظرية أو عقيدة أو مذهبا فكريا، وهي رابطة تتأسس على جانبين اثنين: أولا هذا الإحساس التلقائي والعميق بهوية مشتركة تشد العرب إلى بعضهم، تقوم على وحدة اللغة والثقافة والمشاعر العامة، فضلا عن رباط المصالح السياسية والاقتصادية العامة، وليس على نقاء الجنس أو العرق. وهذه مسألة لا تحتاج إلى عناء استدلال، إذ يكفى المرء أن يتحسس نبض الناس في شوارع القاهرة ودمشق والرياض وبغداد والرباط وصنعاء وغيرها، وخصوصا في الملمات الكبرى، حتى يقف عند هذه الحقيقة الظاهرة للعيان. أما إذا تناولنا المسألة من جهة المنافع والدواعي العملية، فهل يشك أحد مثلا في أن وجود سوق عربية مشتركة، أو أي شكل من أشكال التعاون العربي - العربي لا يشد من أزر العرب ويعزز حضورهم في عالم اليوم المتجه إلى التكتلات السياسية والاقتصادية القارية. إن انقسام العرب وتفاوت أوضاعهم العامة من رقعة إلى أخرى، ومن بلد عربي إلى آخر، حقيقة واقعة لا مراء فيها، بيد أن هذا لا يلغي الشعور العام بوحدة الانتماء والمصير الذي يظل يسكن كل عربي تقريبا من موريتانيا إلى سلطنة عمان.

ثمة مشكلة عربية لا يمكن حجبها بأي حال من الأحوال تتمثل في هذا التناقض الحاد والصارخ بين واقع الجغرافيا السياسية للدولة العربية وما يمكن تسميته خارطة الوعي السياسي العربي، فبينما تنزع الدولة العربية إلى تأسيس شرعيتها وبناء سرديتها التاريخية الخاصة بها، يظل الشارع العربي عابرا للحدود والشرعيات القطرية، وربما يشغله ما يجري في بغداد والقدس وبيروت وصنعاء أكثر مما يشغله من هموم محلية. طبعا مثل هذا الإشكال لا يمكن أن يحل في بطون الكتب أو في مجالس المثقفين، بل يخضع لمستقبل حركة التدافع السياسي في العالم العربي، وما إذا كان العرب سيسلمون طوعا أو كرها بأن دولهم القطرية تمثل الأفق النهائي المتاح أمامهم أم سيظل حلم الوحدة (كيفما كان وضعها) حاضرا وملهما لهم.

وهنا أخلص للقول بأن ما يؤسس شرعية فكرة العروبة ليس الادعاءات النظرية الفارغة التي يرددها القوميون العرب، بقدر ما تؤسسها الحاجات العملية الاستراتيجية، فبنظرة واقعية باردة، يمكن القول بأن الرقعة العربية، ولظروف تاريخية معروفة، ظلت من أكثر مناطق العالم تفككا سياسيا وفراغا إقليميا، مثلما هي عرضة لتدخلات خارجية لا حد لها، منذ انسحاب العثمانيين الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى، وهو فراغ لم تقو الدول العربية المبعثرة على ملئه أو تداركه، وذلك خلافا حتى للدول المجاورة لنا مثل الأتراك والإيرانيين الذين تمكنوا على نحو أو آخر من إقامة كياناتهم القومية المستقرة بعض الشيء.

هذا يعني فيما يعنيه إفراغ فكرة العروبة من الشحنة العقائدية والمذهبية التي تلبست بها، وإرجاعها إلى حجمها ونطاقها الطبيعي باعتبارها رابطة سياسية عامة تشد العرب إلى بعضهم البعض وتحد من وهنهم وضعفهم، وبهذا المعنى أقول بأن عروبة متصالحة مع الإسلام، ومتبصرة بروح العصر وحاجاته، تمثل حاجة للحاضر وأفقا نحو المستقبل وليست حركة ارتدادية نحو الماضي، أي العودة هنا إلى عروبة الآباء المؤسسين من الإصلاحيين الإسلاميين.