محمد عبده يماني رجل يحبنا ونحبه

TT

منذ قرابة عامين نشر الدكتور محمد عبده يماني - رحمه الله - مقالا على صفحة الرأي من صحيفة «الشرق الأوسط»، يؤبن فيه المغفور له الطيب صالح، وفي نفس الصفحة يظهر لي مقال أنحو فيه ذاك النحو. عجيب والعجائب بقدر غَدَرات الليالي أني أكتب اليوم في رثاء الشيخ محمد عبده يماني، وربما تأخرت هذه الكلمة لكوني كنت مصروف السعي - منذ علمت بنعي المنعّم - في شواغل قعدت بي دون الكتابة والتأبين، مع أنها لم تلهِني ولا مثقال حبة عن الحزن والأسى. ولكن لا مندوحة مما به حُمّ القضاء، فلكل أجل كتاب.

رحم الله الشيخ الدكتور، كان عابدا، عالما، عارفا، صالحا، في كل ما على وزن «فاعلا» من المحامد سبحا طويلا... رحم الله الدكتور، كان خيّرا، سمح العلانية، ميمون النقيبة، صادق الود، حافظ الذمام، يصل الرحم ويقري الضيف ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق... سبق نظراءه بشيء وقر في قلبه! كان محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأيته تخنقه عَبرة عندما يذكره ويصلي عليه. يقيم بدرية ذكرى لبدر من كل عام، فنصرنا في بدر غير مفارق لخلده وكأنه بالأمس.

في مكتب فسيح لعله بالطابق الخامس - على ما أذكر - من برج «دلة البركة» في مدينة جدة المحروسة، زرت الشيخ، ونعم المَزُور!

تَرَاهُ إذا ما جئتَهُ مُتهلِّلا

كأنكَ تُعطِيهِ الذي أنتَ سائلُهْ

تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حتى لو انَّهُ

يُريدُ انقباضاً لم تُطِعْهُ أنامِلُهْ

ولَوْ لم يكُنْ في كَفِّهِ غيرُ نَفْسِهِ

لجادَ بِهَا.. فلْيَتَّقِ اللهَ سائلُهْ

قبل أن أدخل عليه جلست في قاعة بها جملة غير يسيرة من قصّاده. يجتمع الناس على بابه، والمورد العذب كثير الزحام.

لاحظت أن أغلبهم من السادة الأشراف، ومن مألوف المحكيات عن الشيخ أنه محب للسادة يقدمهم على غيرهم، وحُقّ له، وحَقٌّ لهم ذلك، حُدثت أن طوارق الشيخ لا تخلو من سيد شريف. جُبل قلبه على محبتهم، يؤويهم ويجلّهم ويقضي مآربهم...

حييته، وردّ مرحّبا. كان جلّ الحديث حول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وربما ذكرنا قوما صالحين منهم السيد محمد علوي المالكي رحمه الله، يحدث عنه كثيرا، فقد كانا: كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا.

حاولت أن لا تأسرنا شعاب الحديث، فمنتظروه كثُر، تآلفنا وافترقنا على نية لقاءات أخرى. آخر لقاء بيننا كان قبل عام، جلست معه يسيرا من الوقت لأعطيه بحثا حول شمائل الحبيب صلى الله عليه وسلم، صلّينا الظهر أمام مكتبه مع جماعة من معاونيه وزواره، وبعدها ودعته، وكما قال ابن زريق البغدادي:

ودّعتُهُ وبودّي لو يودّعني

صَفْوُ الحياة وأني لا أودّعُهُ

كان الشيخ رحمه الله قيّما على مركز «اقرأ»، ومع دور المركز العلمي والإعلامي كان محلا لفعل الخيرات، وغيره - عند الشيخ - كثير من رعاية المرضى، ومرضى القلب، وحتى الرياضة لها قسطها من نوال أياديه.

ألّف من الكتب كثيرا، وتعجب لا من كثرتها وإنما من تعدد مواضيعها وثراء مادتها، فمن فقه العبادات والسيرة النبوية إلى الفكر الإسلامي، إلى قضايا السياسة المعاصرة، إلى العمل الإنساني، ولا يغيب مجال التخصص الذي هو الجيولوجيا الاقتصادية، وحتى الفضاء فقد غزته بنات فكر الشيخ. ومن الجلي في هذا التنوع التآليفي ما يبين أن الشيخ مفكر متعدد الرسالات، فهكذا الموسوعية أو لا تكون، فمن هذه المؤلفات: «قضايا تعليمية»، «مشرد بلا خطيئة»، «الأقليات المسلمة في العالم.. وإسلاماه»، «روسيا والمسلمون ومحنة الانفتاح الجديد»، «الخليفة الخامس»، «المعادلة الحرجة في حياة الأمة الإسلامية»، «حوار مع البهائيين»، «البابية»، «أفريقيا لماذا؟»، «لا تضيعوا أفريقيا كما ضاعت الأندلس»، «للعقلاء فقط1 - 2»، «قادم من بكين: الإسلام بخير»، «كشفت أزمة الخليج عورتنا»، «نظرات علمية حول غزو الفضاء»، «الأطباق الطائرة حقيقة أم خيال؟»، «أقمار الفضاء غزو جديد»، «الجيولوجيا الاقتصادية»، «مشرد بلا خطيئة»، «المعادلة الحرجة في حياة الأمة الإسلامية»، «بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، «خديجة بنت خويلد في قلب المصطفى»، «علموا أولادكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم»، «علموا أولادكم محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم»، «إنها فاطمة الزهراء»، «علموا أولادكم محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم»، «هكذا صام رسول الله صلى الله عليه وسلم»، «هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم».

يا سبحان الله، كان الشيخ يتحرى يوم يغيب، ويدين نفسه ولا يتبعها هواها، ويعمل لما بعد الموت، ويذكر هادم اللذات، ولك في وصيته لبنيه غنى عما نقول.

وما مات من أبقى ثناء مخلّدا، فقد رحل عن محمود الثناء، وبررة الأبناء، ياسر وعبد الله وعبد العزيز، فليس برّهم به وحده وإنما بكل أحد، فتلك أقدام بعضها من بعض.

عرفت ابنه عبد الله، والحمد لله خير خلف لخير سلف، لا تعرف هل هو شاب بقدر عمره أم شيخ بقدر بفعاله؟

ترعرع الملكُ الأستاذُ مكتهلا

قبل اكتهلالٍ.. أديبا قبل تأديبِ

ولي مع عبد الله حديث يطول ويطول، فلا يفي قليل السطور بذكر مناقبه، وصدق فيه القول:

فتى صيغ من ماء البشاشة وجهُهُ

فألفاظُه جودٌ وأنفاسُه مجدُ

وصدق فيه القول:

فتى بان للناس في كفِّهِ

من الجود عينان نضاختان

وكذلك:

فتى لا يبالي أن يكون بجسمه

إذا نال خلاّت الكرام شحوب

رحم الله أبا ياسر، وددنا لو طالت مدته معنا، ولكنه قضاء الله ولا مردّ لأمره، ونحن محزونون ولكن بأمر الله راضون، ولا نقول إلا ما يرضيه.

وهكذا هذه الدار لا تعطي إلا أخذت، وصدق الأستاذ:

نَصيبك في حياتِك مِن حبيبٍ

نَصيبك في منامك مِن خيالِ

لئن غادرتنا لن يهون السلو عن ذكراك، فبالله عزاؤنا. سقى الله قبرك بالمعلاة هواطل الرحمة والرضوان.

سقى مثواكَ غادٍ في الغوادي

نظير نوالِ كفّكَ في النوالِ

* كاتب وباحث

وإعلامي موريتاني.