(إديث بياف) و(هيفا وهبي)

TT

في مرحلة من مراحل حياتي التعيسة والسعيدة أحيانا، كنت أسكن في شقة صغيرة وحيدا وعازبا ومنتوفا ومبتلى بارتعاد المفاصل من شدة البرد في الليالي الطويلة، لا يؤنس وحدتي غير الكثير من الهذيان والقليل من الوناسة التي تشرح الخاطر.

وأذكر أنني كنت مشتركا لمدة سنة في إحدى الجرائد التي كان الموزع يمررها يوميا من تحت عقب الباب، وخطر ببالي بعد أن كادت السنة تنتهي، أن لا أجدد اشتراكي بها، خاصة أنني قد قررت أن أوفر ثمنها لما هو أهم وأجدى.

وتحينت الفرصة في الصباح الباكر، وما كاد الموزع يمرر كالعادة الجريدة حتى فتحت الباب قائلا له: خلاص، إنني لا أريد أن أجدد اشتراكي. فسألني: لماذا؟! قلت له: بصراحة، إنني أتناولها يوميا لأرميها فقط في سلة الزبالة ولا أقرأها.

فتوقف قليلا يفكر، ثم قال لي بحماسة: ما رأيك في أنني مستعد لأن أرميها بالنيابة عنك في سلة الزبالة من دون أن تتعب نفسك، المهم أن تجدد اشتراكك. هل تصدقون أنني بعد أن سمعت منطقه المفحم ذاك جددت اشتراكي، وارتحت بعدها من تعب رميها في سلة الزبالة، فقد كفاني هو ذلك، جزاه الله ألف خير.

ولا شك في أن ذلك يدل على رجاحة عقلي الذي ما زلت أفاخر به بين الأمم، ذلك العقل الكثير الإباء، والقليل الشمم - رغم أنني إلى الآن لم أعرف ولم أستوعب ما هي (الشمم) - ولكنني مع ذلك قلتها (ومع الخيل يا شقرا).

***

من أثقل الناس على قلبي الذين لبيت دعواتهم، رجل لا هو بصديق ولا هو بالعدو، ولكنه (بين بين)، وأرجو منه إذا كان الآن يقرأ كلامي هذا أن يعذرني على ما وصفته به.. والله على ما أقول شهيد. صحيح أنه كريم، ولكنه بصراحة متعب (وسادي) من دون أن يقصد ذلك، أكرر من دون أن يقصد ذلك، (لكي لا يفهمني غلط). وإليكم يا سادتي باختصار ما حصل، فقد دعانا لوليمة غداء - الله لا يعيدها من وليمة - وإنني أكره أكثر ما أكره أن أذهب لدعوة غداء وفي عز الظهيرة، فنفسي لا تنفتح على الولائم إلا في الأمسيات التي هي (حرّزانة) وتستاهل، ولكنني لبيت دعوته وأمري لله، وذهبت (ورجلي على رأسي) على أمل أن أحصل من ورائه على الأقل على (عراش)، واتضح أن رأسه رأس (ظبي) ليس فيه ولا نتفة من (العراش)، بل إنه هو الذي كاد يعرمشني.

المهم أنه كان يسكن في الطابق العلوي من عمارة يملكها مكونة من ثمانية أدوار، يقطنها جميع أبنائه وبناته وزوجاته مع كثير من أحفاده المزعجين، وتلك العمارة ليس لها أي (أسانسير)، وكان لزاما علينا من أجل أن نأكل خروف (المندي) أن نصعد لكي نحظى بذلك الشرف الدسم والمفعم بـ(الكلوسترول).

البياخة في الموضوع أنني بعد أن كنت على وشك الذهاب انتحيت به جانبا لكي أقنعه بما كنت آمله وبما هو سبب مجيئي وتعرضي لهذه المعاناة، وإذا به يعتذر لي ويضحك في وجهي ضحكة صفراوية بأسنانه الداكنة وهو يودعني عند حافة الدرج قائلا لي: صحيح أنني تعبتك بالطلوع، ولكن عليك أن تحمد ربك لأنك بعدها سوف تستمتع بلذة النزول. عندها نزلت صاغرا، وفي كل درجة من درجات السلم كنت أدعو عليه وعلى نفسي، رافضا جملة وتفصيلا مقولة الشاعر: «يا مدوّر الهين ترا الكايد أحلى».

***

يتذكر المغني والممثل الفرنسي (إيف مونتان) صديقته المغنية الشهيرة (إديث بياف) بالآتي: «كانت، في سريرتها، تسعى دائما إلى الحب، فإذا حصلت عليه غمرتها السعادة وغنت على نحو رائع، وإذا أخفقت فيه غمرتها الكآبة وجاء غناؤها رائعا أيضا». وهكذا هي أيضا (هيفا وهبي)، الله يطول عمرها ويعطيها العافية.

[email protected]