التمرد على الذوبان في كؤوس الآخرين

TT

تضم قائمة أصدقائي في الداخل والخارج خليطا عجيبا من خلق الله، منهم الجاهل والمتعلم، الحكيم والأحمق، المتشابه والمختلف، الوديع والمشاكس، المثقف و«المتثاقف»، وبإمكاني أن أعيش مع جل هؤلاء في سلام، باستثناء أولئك الذين يطمحون إلى احتلالي تحت وهم أن يجعلوا مني نسخة كربونية من ذواتهم، وصدى لأصواتهم، فأنا أشعر أنني كائن مستقل يتمرد على الذوبان في كؤوس الآخرين، وتلك ليست مشكلتي ولكنها مشكلة الآخر الذي يحاول تصدير ذاته إلى ذوات الآخرين، رغم كساد مكونات تلك الذات - أحيانا - المزمع تصديرها بغية تشكيل القطيع.

وأزمة ثقافتنا المعاصرة تتجسد في كثرة هواة فرض الذات على الآخر، ولا يخلو طيف من أطيافنا الفكرية من وجود أمثال هؤلاء، حتى بين تلك التيارات التي تدعي احترام حقوق الآخرين، وقبول الرأي الآخر، فالأزمة هنا نفسية، وتتصل بالنشأة «اليقينية جدا» التي ألف الفرد توهمها في مراحل تكوينه المختلفة.

وكان لي صديق - رحمه الله - شديد التقلب بين التوجهات والمذاهب الفكرية، وفي كل مرة يحط رحاله على تخوم أحدها تجده شديد اليقين بأنه قد عثر على ضالته المنشودة، فيتحول إلى داعية نشط، يروج لما اعتقد أنه الصواب، لكنه سرعان ما يلبث أن يغير قناعاته ليبدأ رحلة بحث عن محطة جديدة. وخطورة صديقي ذاك أنه يمتلك قدرا من الزعامة والنفوذ على بعض من حوله، فتجدهم ينقادون خلفه كما تنقاد قبائل الغجر إلى مسارات زعاماتها، يضربون أطناب خيامهم حيثما حل، ويرحلون أينما رحل، وقد اعترف لي، وهو على فراش المرض أن ما جناه من كثرة الترحال قبض ريح.

ويلح السؤال: كيف يمكن دعم استقلالية الفرد في مواجهة محاولة الآخرين الخوض داخل مياهه الإقليمية «الشخصية» لاقتلاعه من ذاته؟ ويبدو الجواب معلقا في انتظار أسلوب تعليمي أكثر جرأة في النأي عن التلقين وادعاء امتلاك الحقيقة، واستهداف تشكيل القطيع.. أسلوب تعليمي قادر على استيعاب الاختلاف، واحترام التباين، ودعم الاستقلالية، فليس ثمة ما هو أكثر رتابة من أن نتشابه إلى حد التطابق، فمن اصطدام الأفكار ينبثق الضوء.

** كلام أخير:

«لا تمش أمامي ربما لا أتبعك

لا تمش خلفي ربما لا أحسن قيادك

ولكن كن بجانبي ودعنا صديقين»

[email protected]