رفيق العزلة

TT

عندما كنا في أوتاوا منتصف السبعينات، وبيروت تحترق، وأوضاعنا جميعا صعبة، كنت أحلم بشقة على النهر. كان النهر يذكرني بالشرفة الصغيرة في بيروت، المطلة على البحر والميناء. كنت أسافر مع كل سفينة وأعود مع كل باخرة. وكان للبحر سحر واحد: أن يبدد الشعور بالوحدة؛ في المساء، عندما تتلألأ فيه أنوار السفن الراسية ومصابيح مراكب الصيادين، أو في النهار، عندما تنعكس أشعة الشمس وتتكسر على سطحه الظلال.

كنت أعتقد، في سذاجة، وربما في أنانية، أنني اكتشفت علاج الوحدة ودواء العزلة. يا له من رفيق مجاني عظيم.. أنى خرجت إلى الشرفة، كان هو هناك، في الانتظار.. وأنى تطلعت من النافذة لاحت لك حركته وصمته وزرقته ولا منتهاه. وعندما أطبقت علينا الوحدة في أوتاوا، كان البحر بعيدا في المحيط، لكن على مقربه كان نهر الأوتاواي، الوسيع الشاسع السارح بين الأشجار وتحت الجسور، وكان مثل رديف صغير لمشهد البحر في بيروت؛ ولو من دون ميناء، وسفن تحمل الأحلام وسفن تعود بها.

ثم تعودنا المدن التي لا موانئ فيها ولا بحار تبحر فيها أحلامها. واستبدلنا بالبحر الحدائق وبحيراتها الصغيرة، وأخذت أكتشف أن العزلة ليست خوفي وحدي، وأن جميع الناس يطلبون مساكن تطل على شيء ما: على نهر، أو حديقة، أو برج إيفل، أو برج تورونتو، أو برج ماليزيا، أو برج خليفة.. فحين لا يعود الكتاب كافيا أو هو يريد إجازة قصيرة منك، لا بد من أنيس في البعيد، على شكل برج، أو أضواء، أو مدى لا يتوقف إلا وقد اتصل بالأفق.

يرسم طوماس وولف في «لا تستطيع العودة إلى البيت»، صورة أخاذة لدور البحر في حياة المدن.. يشير إلى أن هيرمان ملفيل يقول في رائعته «موبي ديك»، إن سكان المدن في زمنه كانوا يقتلون الوحدة بالتنزه على أرصفة الميناء وشواطئ البحر، أما المدن المعاصرة فموحشة، يتسكع شبانها في الشوارع، ويقتلون الملل بالصراخ وإطلاق الصيحات النكراء.

يقول وولف، وكأنه يستعيد معي ذكرى تلك الشرفة الصغيرة في بيروت: «في هذا العالم القاحل ليس ثمة سفن ترفع قلاعها وتبحر مع الريح». وتطبق على نفسه الشوارع الفقيرة في بروكلين وآفاقها المسدودة بالإسمنت وبعدها عن النهر الذي يبدد منظره الضيق ويوسع المدى. دائما في قصص وولف، ثمة رجل يخاف البقاء في عزلته، ثمة من يبحث عن أنيس في المدن الصناعية الأميركية الطاغية. دائما هكذا أيضا في روايات ألبير كامو أو غابرييل غارسيا ماركيز. لذلك اخترع الإنسان المقاهي، ساعة لا كتاب ولا حديقة ولا بحر تحمل سفنه الأحلام وتعود بها.. تقلع في الصباح وتعود في الأمسيات وهي تملأ ظهر البحر أنوارا وتحيات.