العالم المتناهي

TT

عاودت أسعار النفط تجاوز حاجز الـ90 دولارا للبرميل. كما ارتفعت أسعار النحاس والقطن لمستويات قياسية، وكذلك ارتفعت بشدة أسعار القمح والحبوب. وبوجه عام، ارتفعت أسعار السلع العالمية بمقدار الربع خلال الشهور الستة الماضية.

إذن، ما معنى هذه الزيادة؟

هل أصيبت المضاربات بحالة من السعار؟ أم أن ذلك نتاج لعمليات مفرطة لجني الأموال، ونذير على قرب وقوع تضخم؟ لا وألف لا.

إن ما تخبرنا به أسواق السلع أننا نحيا في عالم متناهٍ، يتسبب في إطاره النمو السريع للاقتصاديات الناشئة في خلق ضغوط على المعروض المحدود من المواد الخام، مما يدفع بالأسعار نحو الارتفاع. وتتخذ الولايات المتحدة موقف المتفرج في الجزء الأكبر من هذه القصة.

جدير بالذكر أنه خلال المرة الأخيرة التي ارتفعت فيها أسعار النفط والسلع الأخرى لهذا المستوى منذ عامين ونصف العام، تعامل حينها الكثير من المعلقين مع موجة الارتفاعات باعتبارها مجرد انحراف عن المسار المنطقي ناشئ عن نشاطات المضاربين. وأكدوا أن وجهة نظرهم ثبتت صحتها عندما انخفضت الأسعار فجأة في النصف الثاني من عام 2008. إلا أن هذا الانهيار في الأسعار تزامن مع ركود حاد في الاقتصاد العالمي، مما أدى لانخفاض شديد في الطلب على المواد الخام. أما الاختبار الأكبر فسيأتي عندما يستعيد الاقتصاد العالمي عافيته. والتساؤل القائم الآن: هل ستصبح المواد الخام باهظة السعر مجددا؟

داخل الولايات المتحدة، يبدو وكأن البلاد لا تزال تعاني من ركود، لكن بفضل النمو الذي حققته دول نامية، تجاوز الإنتاج الصناعي العالمي مؤخرا نقطة الذروة السابقة له - والمؤكد أن أسعار السلع سترتفع مجددا. إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن المضاربات لم تلعب دورا في 2007 - 2008. كما لا ينبغي أن نرفض فكرة أن المضاربات تقوم بدور ما في الأسعار الراهنة. مثلا، من هو ذلك المستثمر الغامض الذي اشترى جزءا كبيرا من المعروض العالمي من النحاس؟ لكن حقيقة أن التعافي الاقتصادي العالمي أدى إلى تعافٍ في أسعار السلع توحي بقوة أن التقلبات الأخيرة في الأسعار تعكس بصورة أساسية عوامل جوهرية.

وماذا عن أسعار السلع باعتبارها مؤشرا على قرب حدوث تضخم؟ على مدار سنوات، توقع الكثير من المعلقين المنتمين لتيار اليمين أن يقدم مصرف الاحتياطي الفيدرالي، عبر طبع الكثير من الأموال - المصرف لا يقوم بذلك بالفعل، لكن هذا هو الاتهام الموجه له - على خلق حالة تضخم حاد. من جهته، أعلن النائب بول ريان في فبراير (شباط) 2009 أن التضخم المصحوب بركود اقتصادي في طريقه إلينا. أما غلين بيك فيحذر من تضخم هائل وشيك منذ 2008. ورغم ذلك، ظل التضخم منخفضا. إذن، ماذا ينبغي أن يفعل من يخالجهم القلق إزاء التضخم؟

من بين ردود الأفعال: الترويج لنظريات المؤامرة، مثل ادعاءات بأن الحكومة تتكتم على الحقيقة بشأن ارتفاع الأسعار. ومؤخرا سارع الكثيرون من تيار اليمين للإشارة إلى ارتفاع في أسعار السلع كدليل على صحة وجهة نظرهم، وكمؤشر على قرب حدوث تضخم عام. ولا يسعنا سوى التساؤل عما كان يعتقده هؤلاء الأشخاص منذ عامين، عندما كانت أسعار المواد الخام في انحسار. وإذا كان ارتفاع أسعار السلع خلال الشهور الستة الماضية ينذر بقرب وقوع تضخم، فلماذا لم يحدث ذلك مع الانخفاض بنسبة 50% الذي شهده النصف الثاني من عام 2008؟

بيد أنه بخلاف عدم اتساق الآراء، تكمن المشكلة الكبرى فيما يتعلق بأولئك الذين يلقون باللوم على مصرف الاحتياطي الفيدرالي عن ارتفاع أسعار السلع في أنهم يعانون من أوهام العظمة الاقتصادية الأميركية. إن أسعار السلع تتحدد عالميا، ولا تضطلع الولايات المتحدة بدور على هذه الدرجة من الأهمية بهذا الصدد.

الواضح أنه اليوم، مثلما كان الحال في 2007 - 2008، تتمثل القوة الدافعة الرئيسية خلف أسعار السلع المرتفعة ليس في الطلب الأميركي، وإنما الطلب الصادر عن الصين واقتصاديات ناشئة أخرى. مع انضمام المزيد والمزيد من الأفراد داخل دول فقيرة سابقا إلى الطبقة الوسطى العالمية، فإنهم بدأوا يقودون سيارات ويتناولون اللحوم، ليخلقوا بذلك ضغوطا متنامية على إمدادات النفط والغذاء العالمية.

في الوقت ذاته، لا تنمو هذه الإمدادات بمعدل يتوافق مع تنامي الطلب. وتشير الإحصاءات إلى أن إنتاج النفط التقليدي ظل ثابتا لأربع سنوات. ومن هذه الزاوية على الأقل، يبدو أن إنتاج النفط قد بلغ ذروته بالفعل. من ناحية أخرى، فإن المصادر البديلة، مثل النفط المستخرج من رمال القطران في كندا، استمرت في النمو. لكن المصادر البديلة تنطوي على تكاليف مرتفعة نسبيا، على الصعيدين المالي والبيئي.

أيضا، على امتداد العام الماضي لعبت الظروف المناخية المتطرفة - خاصة الحرارة الشديدة والجفاف ببعض المناطق الزراعية المهمة - دورا حيويا في دفع أسعار الغذاء نحو الارتفاع. وهناك اعتقاد قوي بأن التغييرات المناخية تزيد معدلات وقوع مثل هذه الأحداث المناخية.

إذن، ما هي دلالات الارتفاع الأخير بأسعار السلع؟ إن هذه الزيادة، مثلما ذكرت آنفا، مؤشر على أننا نعيش بعالم متناهٍ، عالم تزداد فيه القيود على الموارد حدة يوما بعد آخر. إلا أن هذا لن يضع نهاية لنمونا الاقتصادي، ناهيك عن تردينا في حالة من الانهيار الكارثي. لكن الوضع الجديد يتطلب منا تغيير أسلوب حياتنا تدريجيا، وتكييف اقتصادنا وأسلوب معيشتنا بحيث يتوافقان مع حقيقة أن الموارد أصبحت أعلى تكلفة.

لكن هذا الأمر يخص المستقبل، أما في الوقت الراهن فتعد أسعار السلع المرتفعة نتاجا لاستعادة الاقتصاد العالمي عافيته. ولا تحمل دلالات بالنسبة للسياسة النقدية الأميركية، لأنها في جوهرها حدث عالمي لا صلة له بنا تحديدا.

* خدمة «نيويورك تايمز»