نعم السياسة هي فن الممكن.. ولكن أي ممكن؟

TT

كثيرا ما نقرأ في أدبيات الكتاب والصحافيين العرب حديثا مستفيضا عن فضائل الواقعية والواقعيين السياسيين، مع وصف أي ضرب من ضروب التفكير أو الفعل السياسي الذي يخرج عن نطاق السائد والمألوف بالخيال، هذا إن لم يوصف بالتخرصات والأوهام.

طبعا ليس غرضي من هذا المقال قدح الواقعيين أو ذم فضائل الواقعية والاتزان والاعتدال التي تظل من الصفات اللازمة لكل من يخوض غمار الشأن العام، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو المجموعات، أو بالأحرى والأولى بالنسبة للدول. كما أنه ليس من أهدافي هنا تمجيد الحالمين والمثاليين القاعدين، أو التماس المعاذير للمغامرين والمتنطعين السياسيين، ونحن نقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون).

لم يتردد ابن خلدون برؤيته الثاقبة المستندة إلى وعي تاريخي عميق، ثم سجل تجربة سياسية مديدة، في ذم المغامرين السياسيين، ممن يستسهلون حمل السلاح والخروج تعلقا بمثاليات دينية وأخلاقية حالمة، من دون مراعاة سنن الاجتماع وقوانين الغلبة. بل أكثر من ذلك لم يتردد ابن خلدون في الدعوة إلى إنزال أشد أنواع العقوبة بهؤلاء المغامرين، لما يحلّونه من كوارث بأنفسهم وبغيرهم، ثم لجلبهم مفاسد أشد من المفاسد التي نهضوا لمقارعتها. فهم بحسب تعبيره «موسوسون يحتاج في أمرهم إلى المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل والضرب إن أحدثوا هرجا وإما إذاعة السخرية منهم» (المقدمة ص 159).

بيد أن ما يدعو المرء هنا إلى ملازمة الحذر وعدم إطلاق الأمور على عواهنها عند الحديث عن الاعتدال والمعتدلين، أو المثاليين والحالمين، جانبان اثنان. أولهما حالة الاختلاط والتشويش الدلالي التي تلبست بالكثير من المقولات والمفاهيم الرائجة في سوق المثقفين والإعلاميين العرب، وفي مقدمة ذلك مقولتي الواقعية والمثالية وما يدخل في نطاقهما. وثانيهما حالة الابتذال التي تصل حد السذاجة في الكثير من الأحيان التي صاحبت استخدام كلمتي الواقعية والواقعيين في كتابات النخب العربية.

وربما يحتاج المرء هنا إلى شيء من التوقف بعض الشيء عند مقولة طارت بين الناس وكادت تبلغ البديهة، لشدة استخدامها وتكرارها، وهي أن «السياسة فن الممكن». وفعلا هذه المقولة، على اختصارها وكثافتها تمثل قاعدة ذهبية يتوجب أن يأخذ بها كل من يتعاطى، أو أراد أن يتعاطى الشأن السياسي العام، شريطة أن يحسن فهمها بعمق، وبعيدا عن التشويه والاختزال.

أن نقول بأن السياسة هي فن الممكن، فهذا يعني أنها في جوهرها تحويل الممكن إلى ضرب من ضروب فن التفكير، أي توسيع آفاق الواقع المعطى، والسعي الدؤوب إلى إعادة تشكيله والارتقاء به، وفق حساب دقيق لما هو بين يديك من إمكانيات محصلة، أو محتمل تحصيلها ضمن شروط سياسية معينة، بهدف تعديل موازين القوة لصالحك. وقس على ذلك هنا مقولة كلاوزفيتس الشهيرة، بأن «السلم لا يعدو أن يكون سوى استمرار للحرب بأساليب أخرى»، أي تغييب الحدود القاطعة بين السلم والحرب على نحو ما يظن الكثير.

هذا ما يسميه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بالعقلانية القاصدة، أي تلك التي تربط الوسائل والإجراءات بالأهداف العملية المحددة بدقة وعناية فائقة، سواء من طرف الأفراد أو المجموعات المنظمة أو الدول عامة. بلغة أخرى يمكن القول هنا بأن السياسة هي فن تجسير الهوة الفاصلة بين الموجود والمطلوب، وبين الواقعي والخيالي. والسياسي الذي لا يعمل على عبور هذه الهوة، أو في الحد الأدنى التقليص منها، هو سياسي فاشل بامتياز، وليس أهلا لتولي موقع القيادة والمسؤولية العامة، لأنه بكل بساطة فاقد للبصيرة أو هو في أحسن الحالات لا يحمل رؤية أو خيالا استراتيجيا.

الواقعية السياسية بهذا المعنى ليست القبول السلبي لكل ما يعرضه الآخرون، بل هي النظر المتبصر في الإمكانيات التي يختزنها الواقع خلف ما يطفو على السطح الخارجي، باتجاه فتح دروب نحو الممكن المطلوب. بيد أن هذا المطلوب لا ينبني على الرغائب أو الأوهام السائبة، بقدر ما ينبني على حسن قراءة الواقع وتوازناته العميقة، مصحوبا بسعة الخيال وقوة التصميم والإرادة، ولعله لهذا السبب اقترن تطور العلوم نفسها، رغم أنها تعد من أكثر المجالات انضباطا ودقة، بالخيال فيما بات يعرف اليوم بالخيال العلمي، الذي لم يعد مجرد تخرصات روائيين، بل أصبح أفقا مستقبليا يوسع من آفاق ومدركات العلوم.

طبعا، يجب الحذر هنا من التعميم والتبسيط، فليس كل ضرب من الخيال جديرا بأن يسمى خيالا استراتيجيا، بل ثمة أخيلة سليمة وصحية، وأخرى مريضة ومدمرة يجب التوقي منها. ولعل هذا ما يؤسس مشروعية التمييز بين السياسي والاستراتيجي النابهين من جهة، وبين العامي الذي لا صلة له بالشأن السياسي أصلا، مثلما يسمح أيضا بالتمييز بين ثلاثة أصناف من السياسيين. العقلاني الواقعي، والسلبي القانع، والسياسي المغامر.

فالسياسي الواقعي هو الذي يمزج بين رجاحة العقل وخصوبة الخيال وقوة التصميم والإرادة لتوسيع أفق الممكن. والسياسي المستسلم هو الذي يتكيف مع الممكن الذي يرسم حدوده الآخرون دون مغالبة. والسياسي المغامر هو الذي لا يقدر عواقب أعماله، ولا يميز أصلا بين ما هو ممكن وما هو موهوم.

نعم السياسة هي في جوهرها ممارسة فن الممكن ولكنها قطعا ليست انصياعا سلبيا لما هو قائم وموجود باسم الواقعية، ولا هي مجرد تجريب خيالي للتطلعات والأحلام. كلنا يعرف أن الكثير من الفظاعات التي ارتكبها سياسيون وثوريون مغامرون مثل يعاقبة الثورة الفرنسية، ومن بعدهم الستالينيون والنازيون وبول بوت كمبوديا، انتهاء اليوم بالمجموعات العنفية مثل «القاعدة» وأضربها ناتجة في وجه من وجوهها عن الأخيلة المريضة، أي تحويل السياسة إلى ضرب من التجريب الخيالي للتطلعات والأحلام.

فعلا كثيرا ما تتداخل الأمور وتلتبس الخيارات على المتعاطين بالشأن السياسي، وخاصة في المنعطفات والزلازل الكبرى، وهذا ما يستدعي تمحيص الأمور بوعي وبصيرة ثم بسعة خيال بعيدا عن آفة الإذعان من جهة، وآفة التهور والمغامرات الطائشة من جهة أخرى.

ما فعله ديغول في الحرب العالمية الثانية من خلال تجميع خيوط المقاومة المتناثرة لمواجهة النازية وحكومة فيشي «الواقعية جدا» يدخل في صنف الواقعية الخلاقة. أما ما أقدم عليه صدام حسين بغزوه للكويت من دون حساب موازين القوة وثقل المصالح الدولية في المنطقة فيدخل ضمن باب التهور السياسي وضعف البصيرة. وما فعله عبد الكريم الخطابي رائد ثورة الريف المغربي من خلال التحصن في جبال الأطلس وابتدار حرب الكمائن والعصابات في مواجهة القوة النارية الفرنسية الهائلة، يدخل في نطاق الخيال الاستراتيجي الخصب لهذا الزعيم. كما أن الخطوة الجريئة التي أقدم عليها الملك الراحل فيصل بن سعود بقطع إمدادات النفط سنة 73 لتعزيز قوة الموقف العربي بعد حرب أكتوبر 73، تنم عن رؤية وخيال استراتيجيين. بيد أن ما فعله بن لادن بضربه برجي التجارة في نيويورك من خلال استخدام الطائرات وقتل المدنيين الآمنين، فأقل ما يقال عنه إنه يدخل ضمن نطاق الرعونة والتنطع السياسيين. هذا إذا جردنا المسألة من الاعتبار الأخلاقي والديني الذي لا يشفع له بأية حال من الأحوال إهراق دماء الأبرياء الآمنين بجريرة المذنبين.

مشكلة العالم العربي اليوم أنه يعيش ما يمكن تسميته نضوب الأحلام والتطلعات الكبرى، ليس لقلة الحالمين والمتوهمين بل لغياب الخيال الاستراتيجي الخصب الضابط لوجهة العرب وحركتهم العامة، رغم ما هو متاح بين أيديهم من قدرات صلبة وناعمة مهدرة في أغلبها. فقد ترك انكسار موجات التحرير ثم الاندفاعة القومية الصاخبة للخمسينات والستينات حالة من الفراغ المريع لم تقدر السرديات القطرية الواهية على ملئها، التي باتت تزاحمها اليوم بطولات الطوائف والأعراق وحتى القبائل والجهويات. لقد دخل كل حاكم عربي جحر بيته وأوصد الأبواب خلفه ليمارس الواقعية السياسية على طريقته الخاصة من دون رؤية ولا أحلام ولا طموحات كبيرة، بل من دون قدرة حتى على رؤية ما يجري على بُعد بضعة كيلومترات خلف الحدود. من هنا اختفت كل الشرعيات تقريبا وبقيت الشرعية الوحيدة التي يتكئ عليها الحاكم العربي هي ما سمي بمعركة التنمية، إلا أنه حتى على هذا الصعيد لم يعد في سجل الدولة العربية ما تفاخر به، حينما يرى المرء انتفاضات الجائعين، وطوابير العاطلين والمحبطين من الشباب وخريجي الجامعات في سائر العواصم العربية، أو حينما يسمع ويقرأ عن قوافل الموت وهي تعبر باتجاه الضفة الأخرى للمتوسط.

والمشكلة الكبرى أن هذه الواقعية السياسية تتضاءل مساحتها بصورة متزايدة، بعد أن تحولت إلى ضرب من الإذعان لواقع بائس، يصنعه الآخرون بقوتهم وتصميمهم وسعة خيالهم. فالسودان يسير حتما نحو فقدان امتداده الجنوبي والانكفاء في الشمال «العربي». اليمن تلتقي عليه أزمات مفتوحة على جبهات عدة لا قبل له بها، وربما ينتهي به المطاف إلى فقدان الجنوب مجددا. العراق يتقلب وضعه ما بين وحدة هشة وانفصال كردي محتمل، وقس على ذلك حروب العرب الساخنة والباردة داخل حدودهم وفيما بينهم.

ينبهنا وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو في سفره الضخم المعنون «العمق الاستراتيجي» الصادر أخيرا عن «مركز الجزيرة للدراسات» بأن تركيا الناهضة عليها أن تبني استراتيجيتها الكبرى على ضوء قراءة ثاقبة لتاريخها العثماني المديد، وجغرافيتها المركبة ما بين البحار والمضايق والبرور المركبة، مثلما يذكّر قراءه بأن أمن تركيا يمتد من جبال الأوراس على تخوم روسيا إلى المحيط الأطلسي غربا، وقد غدت هذه الرؤية الكبيرة التي تمتزج فيها حصافة الأكاديمي بخصوبة خيال الاستراتيجي إحدى رافعات نهوض تركيا اليوم وتعظيم قوتها السياسية والاقتصادية. بينما نحن لا نكاد نسمع شيئا من سياسيينا وإعلاميينا «الواقعيين جدا» سوى الحديث الدعائي عن تدشين مصانع الحديد والصلب والبلاستيك، أي معامل الخردة التي لا قيمة لها حتى بمقاييس دول العالم الثالث الصاعدة مثل البرازيل والهند أو تركيا وإيران.

وتبدو مصيبتنا أشد إذا علمنا أن أهل الحل والعقد عندنا لا يحسنون قراءة التاريخ ولا الجغرافيا ولا فهم الاستراتيجيات الكبرى التي تحكم العالم من حولهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.