تقرير المصير الكردي ما بين الجيد والأفضل

TT

جاء آخر تصريح للقائد الكردي مسعود برزاني، الذي جاء به أن قضية «تقرير المصير» لا تزال على الطاولة، كهدية لمن يزعمون أن التقسيم هو أفضل الحلول بالنسبة إلى العراق. وقد شهدنا خلال السبعة أعوام الماضية جلسات النقاش، عقدت أغلبها في الولايات المتحدة، حول أفضل طريقة لتحسين الأوضاع داخل العراق. وفي تلك الأثناء تزايد عدد الكتب والمقالات التي تتناول هذا الموضوع. وشجع انتخابَ باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الداعون إلى التقسيم، فأوباما نفسه لم يتخذ موقفا محددا، كما فعل في قضايا أخرى، حتى يكون لديه أكبر مساحة ممكنة تسمح له بالمناورة. لكن نائبه جوزيف بايدن الذي اتخذ جانب مؤيدي الحرب على العراق بحماس، ظل يروج للتقسيم لسنوات قبل أن يضطره منصبه إلى الصمت أو المواربة. ومع ذلك لم يتم طرح هذه الفكرة داخل العراق في سياق نقاش عام. ويرجع ذلك إلى أن العرب الذين يمثلون 80 في المائة من سكان العراق، لا يرغبون في طرح هذه القضية، في حين أن الأكراد لم يتجرأوا على التلميح إلى هذا الأمر إبان الفترات المتلاحقة من الحكم الاستبدادي في بغداد. والآن بعد أن أصبح العراق مجتمعا منفتحا، لم يعد هناك أي سبب يدعو إلى تجنب طرح قضية تقرير مصير الأكراد. ومن الحكمة ألا يرغب برزاني في تجنب معالجة القضية، ففي وقت سمح به لمواطني جنوب السودان بحق تقرير المصير، وفي وقت يبني فيه مواطنو كوسوفو دولتهم، لا يمكن لأي قائد كردي محترم أن يتظاهر بعدم وجود القضية.

لكن ماذا يعني تقرير المصير حقا؟ إن كان حق تقرير المصير يعني حق المواطن في اختيار حكومته من خلال انتخابات حرة نزيهة، فالأكراد يتمتعون بهذا الحق بالفعل، حيث يعد رئيس الحكومة الكردية التي تتمتع بالحكم الذاتي في أربيل مثالا حيا على ذلك.

بيد أن الكثيرين ممن يتحدثون عن حق تقرير المصير يعنون شيئا آخر وهو حق الانفصال عن العراق وإقامة دولة مستقلة في المناطق التي يمثل بها الأكراد أغلبية السكان. من الذي ربما يكون المستفيد من مثل هذا التطور؟ قبل ثورة الخميني، ساد اعتقاد بأن إيران لا ترغب في أن يكون لأكراد العراق دولة مستقلة. السبب في ذلك هو أن طهران كانت تخشى أن يشجع مثل هذا التطور الأقلية الكردية بها على الانفصال.

لكن الوضع اليوم مختلف، فنظام الخميني أو على الأقل جزء منه لا يزال مهيمنا ويرى العالم من منظور سيادة المذهب الشيعي. فاستراتيجيته طويلة المدى تقوم على زعامة المجتمعات الشيعية المتحدة عبر الحدود القائمة ثم استخدامها كنقطة انطلاق نحو زعامة العالم الإسلامي ككل في إطار ما يسمى بـ«المواجهة الأخيرة» مع القوى الغربية «الكافرة» وهو ما يعد تعريفا غير سليم.

ستستفيد تلك الاستراتيجية من انقسام العراق، حيث تروج طهران على مدار الأربع سنوات الأخيرة لما يسمى بالأجندة «الفيدرالية» للعراق أملا في إقامة في المناطق الثماني في وسط وجنوب العراق حيث الأغلبية الشيعية.

سيضمن سيناريو التقسيم عدم قدرة العراق بعد تقسيمه على التصدي لطموحات طهران للهيمنة الإقليمية. فالعراق الموحد الذي يبلغ عدد سكانه 30 مليونا بالإضافة إلى ثروة ضخمة بفضل احتياطي البترول والموارد المائية سيتمكن من إحداث توازن مع إيران.

علاوة على ذلك، يعد العراق ثاني أكبر دولة ذات أغلبية شيعية بعد إيران. وبمرور الوقت ربما تعود النجف لتصبح المركز الرئيسي لدراسة المذهب الشيعي والإرشاد الديني، مما يجعل من الصعب على أتباع الخميني استمرار أحلام التوسع الشيعي. حتى في الوقت الحاضر هناك ما يدل على بزوغ آية الله العظمى علي محمد السيستاني، المقيم في النجف، كأكثر المرجعيات الشيعية أو «مرجع التقليد» شعبية في إيران.

كذلك ربما يكون وضع تركيا قد تغير هو الآخر، فحتى وقت تحرير العراق ساد اعتقاد بأن تركيا لم تكن راغبة في دولة كردية مستقلة، خشية أن يؤدي هذا إلى سعي الأكراد بها إلى الانفصال. وتمتعت تركيا في الفترة بين عامي 1981 و2003 بحرية مطلقة، منحها إياها صدام حسين، في التوغل العسكري في شمال العراق، مما مكن الأتراك من مطاردة المتمردين الأكراد داخل الأراضي العراقية بموافقة الحاكم المستبد في بغداد. فعندما كان هناك طاغية في بغداد، كانت وحدة العراق تتوافق مع المصالح التركية، بيد أنه من غير المرجح أن يسمح العراق الديمقراطي بتوغل القوات الأجنبية في أراضيه لمدة طويلة. كذلك سيكون من العسير على تركيا إثارة حرب مع دولة الجوار الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط دون أن يثير ذلك معارضة المجتمع الدولي. ومن ثم فمع سعي العثمانيين الجدد في تركيا اليوم إلى تحقيق أحلام الإمبراطورية، ربما تتجه أنقرة نحو اتخاذ موقف جديد مؤيد تقسيم العراق. فالإمبراطورية العثمانية ذاتها قامت على إمارات صغيرة لا تحصى، لا تجمعها. لن يكون لدى دولة صغيرة كردية في شمال العراق أي خيار سوى الخنوع لتركيا حتى وإن كان ذلك يعني عمليات عسكرية تركية مستمرة في أراضيها.

قد تكون سورية هي الأخرى من مؤيدي تقسيم العراق، حيث سيجعلها ذلك أكبر الدول العربية التي تحتل موقعا استراتيجيا بين مصر وإيران من حيث عدد السكان وبالتالي تصبح فاعلا أهم وأكبر. على الجانب الآخر، سيمثل العراق الموحد الديمقراطي تحديا يوميا لسورية التي ترتبط بعلاقات مميزة مع النظام في طهران. ولطالما أيدت إسرائيل، التي تعد فاعلا إقليميا آخر، تمزيق أوصال العراق، حيث يعتقد الكثير من القادة الإسرائيليين أن العراق هو الدولة العربية الوحيدة التي قد تتيح لها مساحتها الكبيرة وربما ثروتها أن تمثل «خطرا يهدد وجود الدولة اليهودية». ويرجح هؤلاء القادة أن عراقا أصغر لن يكون قادرا على تبني أحلام عربية في حرب كبرى جديدة ضد إسرائيل.

لكن ماذا لو أخطأ كل الداعين إلى الانفصال في حساباتهم؟ سيكون أكراد العراق هم أول الخاسرين، حيث سيتحملون تكلفة إقامة دولة جديدة، بل وسيستمرون في دفع تكلفة حمايتها والدفاع عنها في إقليم يموج بالعداوات. وتوضح الكثير من الدراسات الحديثة أن مواطني الدولة الكردية الصغيرة في العراق سيصبحون أفقر مما هم الآن. وقد يجد الأكراد، بعد الانعزال عن ثروة العراق النفطية الضخمة، «تقرير المصير» صفقة غير جيدة. وقد أضرت حالات التقسيم التي شهدتها أوروبا مؤخرا بالمنفصلين، فقد ازداد فقر السلوفاكيين حاليا بنسبة 40 في المائة مقارنة بحالهم عندما كانوا جزءا من دولة تشيكوسلوفاكيا. كذلك ازدادت كل الدول السبع، التي أنشئت عقب تقسيم يوغوسلافيا، باستثناء سلوفينيا، فقرا. ولا يوجد أي سبب يدعو إلى تصور أن العراق سيكون أفضل حالا.

ولن يكون هذا هو مبعث القلق الأوحد، فالمناطق التي من المقرر أن تمثل الدولة الجديدة الصغيرة، تضم عددا من الأعراق الذين لا يعتبرون أنفسهم أكرادا. وسيكون على الدولة الجديدة إما أن تقمع تلك الأقليات وإما أن تقبل مطالبهم بتشكيل دويلات داخل الدولة الجديدة طبقا لأكثر تفسيرات معاهدة لوزان تطرفا.

وستخسر كذلك القوى الإقليمية التي تؤيد تقسيم العراق، فكل تلك الدول بها أقليات عرقية متنوعة، من ضمنها أكراد، الذين قد يسعون إلى الحصول على حق «تقرير المصير» بحسب رؤيتهم. ويوضح التاريخ أنه عندما يتم التشكيك في حدود دولة ما، ستكون حدود كل الدول داخل الإقليم منفتحة على التغيير. تعاملت أكثر دول جوار العراق معه كمصدر إزعاج أو كتهديد حقيقي. لم تخطئ بعض الدول مثل الكويت وإيران، لكن العراق الجديد لن يكون مثلما كان تحت إمرة الطغاة الذين حكموه من 1958 إلى 2003.

ينبغي على برزاني أن يصل بتحليله إلى الاستنتاج المنطقي ويضع قضية «تقرير المصير» على أجندة الحوار المجتمعي. إن لم أكن مخطئا، أغلب الأكراد العراقيين مرتبطون بالعراق بشرط السماح لهم بالتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي داخل نظام يسمح بالتعددية.

وقد نجح أكراد العراق منذ عام 1991 في خلق نظام للحكم الذاتي يسمح بالحفاظ على ارتباطهم بالعراق دون وضع مصيرهم في أيدي من يمتلكون السلطة المركزية في بغداد. يستحق كل من برزاني وحليفه اللدود جلال طالباني التقدير لما حققاه من نتائج تبدو مرضية لأغلبية الأكراد في العراق. أما بالنسبة إلى أكراد العراق، فوضعهم الحالي جيد ولا يوجد داع لتوتيره باسم السعي إلى ما هو أفضل، كثيرا ما يصبح ما هو أفضل مضادا لما هو جيد.