لا حياة دون جهد

TT

شاهدت منذ زمن، فيلما فرنسيا قصيرا، بالأسود والأبيض، عن مجموعة من أربعة رجال غرقت بهم الباخرة، فركبوا قارب النجاة وما معهم سوى قراب من المياه. وبعد ساعات شعر أحدهم بالعطش، فطلب أن يشرب، فمنعه قائد المجموعة. وفي اليوم التالي طلب المياه رجل آخر. ثم جميع الرجال، وكان قائد المجموعة يشد القراب إلى صدره حائلا دون الحصول على نقطة مياه. وبعد أيام في عرض البحار، دب الخوف في القارب وكاد الجميع يتقاتلون، وفجأة بانت لهم اليابسة. عندها أبلغهم رئيسهم أن لا مياه في القراب، وأنهم لو عرفوا الحقيقة منذ اليوم الأول، لكان اليأس قد دب فيهم وانقلب بهم القارب.

أقرأ رواية ممتعة للتركي سرفان اوزبورون «دار كلمة» عن الحياة في اسطنبول، بعنوان «مقهى الباب العالي». يروي اوزبورون أنه دخل، يافعا، مسجد «إيوان» عند الشيخ السماك. وكان الشيخ يدخل بعد انتظار، ويطلب من أحد التلامذة أن يبدأ القراءة في المصحف. «وكان صديقي يضع يديه على ركبتيه بخشوع عميق، وينظف بلعومه، وقبل أن يلفظ حرف الألف في كلمة أعوذ، يوقفه الأستاذ». ويصر الشيخ على أن كلمة «أعوذ» يجب أن تخرج من منطقة بين البلعوم والصدر. ويروي لنا أنه «في زماننا كان إذا أخطأ طالب علم في لفظ مخارج الحروف، يمسكه الأستاذ من لسانه بيده، ويعصره، أو يكويه بقضيب حديدي حار».

بعد ذلك يصرف الشيخ السماك تلامذته إلى بيوتهم. وإذ يعودون في اليوم التالي يتكرر المشهد كما هو. وطوال أسبوعين لا ينجح أحد في لفظ حرف الألف. ثم يأتي طلاب جدد ويكرر الشيخ الامتحان نفسه، مرددا أن «أول العلم حار كالبصل وآخره حلو كالعسل».

وبعد فترة أدرك التلامذة أن الشيخ السماك إنما كان يريد أن يقيس طاقتهم على الصبر ومدى ثباتهم وعزيمتهم. فهو لا يريد أن يضيع الضعفاء منهم، وقته أو أوقاتهم. وكان يدرك بحكم سنه، صعوبة الحياة في اسطنبول، فأراد أن يعلمهم أن المدينة سريعة العطب، وأن لا فائدة من البقاء فيها لمن لا يستطيع الاحتمال.

أسوق هذين المثالين إلى «صديق عرعر» الذي يسألني دائما أن أكتب «نصائح» للشبان. أكبر نصيحة في الحياة هي الحياة. والحياة إما كد ومثابرة وإما ضياع يفضي إلى ضياع. وأكثر ما يفزعني في المرحلة الحالية، ليس نزعات الانفصال وتقديس الانتحار والقتل الجماعي وتبرير الفقر والأمية والتخلف والجبن في الرأي وفي نصرة الحق. أكثر ما يفزعني، وبكل جدية، أن ثمة ازدهارا واحدا هو مقاهي النراجيل. عودة التكايا، التفنن في إضاعة الوقت، انتشار المقاهي بدل المصانع. افتحوا محاشش ومخازن قات. على الأقل يقتل المرء غائبا عن الوعي.