هواة تصنيف الناس!

TT

جمعتني الزمالة الصحافية ذات يوم بزميل كان يحرص على التظاهر بأنه لا ديني، رغم أنني كنت أرى في سلوكه العفوي ما يوحي بغير ادعائه، وفي إحدى المرات أجرى عملية جراحية كبرى في أحد المستشفيات، وحينما جئت لزيارته، وكان لتوه يحاول أن يستعيد وعيه من آثار مخدر العملية، وجدته يلهج بذكر الله:

- «يا الله.. يا الله.. يا الله»!

قلت له:

- «هذا أنت يا صديقي على طبيعتك، وقد استعدت إيمانك المسروق من ركاب المكابرة والادعاء!».

أطلق ابتسامة ممزوجة بالألم، وهو يقول:

- «إنها الحقيقة تكشف عنها لحظات الصدق الخالصة، كالتي أمر بها الآن».

وقد عاش بضع سنوات لاحقة أكثر صدقا مع نفسه، واضح التعبير عن إيمانه، حتى توفاه الله.

أتذكر زميلي هذا في كل مرة يثور فيها نقع تصنيفات الناس إلى «كافر» و«زنديق» و«فاسد» و«علماني»، وغير ذلك. فلدي قناعة بأن الكثير من هذه التصنيفات خادع وعاجل وظالم، وبعض المتهمين بها من ضحايا ذوي الأحكام المتسرعة، الذين يتوهمون القدرة على طرد الناس من رحمة الله وتجريدهم من إيمانهم، مع أن من بين هؤلاء الضحايا من ربما كان عند الله أقرب وأتقى وأنقى من الذين يتهمونهم.

والإنسان في الغالب ابن بيئته، يختزن كل أو جل مفرداتها في جزئه الواعي وغير الواعي، ومن نشأ في بيئة يرتفع فيها الأذان خمس مرات، وبيوت يرتل فيها القرآن، ويردد في أرجائها الدعاء، يصعب أن ينزع كل ذلك من دواخله مهما شرق أو غرب، فهي الأسبق والأعمق، والجذر والأصل، وهي الأقوى في الأعماق من كل ما يكتسب لاحقا.

نحن في حاجة إلى أن يحسن هواة تصنيف الناس الظن بالناس، وألا يدفعوهم إلى الخروج من ذواتهم عنادا وجفاء وخصومة، فـ«لو ترك القطا ليلا لنام»، ولولا هذه التصنيفات وصناعها لكنا أكثر تجانسا وتآلفا وتكاملا، وعلى من هدم جسور التواصل مسؤولية إعادة بنائها، فالناس بخير، و«كن جميلا ترى الوجود جميلا».

[email protected]