الأحزاب السياسية في المغرب.. تشرذم أم تعددية؟

TT

على أي شيء تدل هذه الكثرة في الأحزاب السياسية في المغرب؟

هل هي دليل صحة وعافية؛ إذ الكثرة تفيد، من الناحية الصورية على الأقل، بوجود دينامكية في الفعل السياسي، أم أنها، على العكس من ذلك، علامة ضعف ومرض؛ فهي تؤشر على الفرقة الكثيرة وتعبر عن «التشرذم»، ما دام الوجود السياسي في المغرب لا يحتمل ما يربو على الثلاثين حزبا سياسيا؟

يذهب المراقبون في الإجابة عن هذا السؤال مذهبين اثنين؛ مذهب يرى أنه لا مانع، من حيث المبدأ، من الكثرة والتعدد ما دام «نظام الحزب الوحيد ممنوعا في المغرب»، كما ينص على ذلك دستور البلاد في فصل صريح، فلا حق لأحد في تقرير سقف للتعدد يقف عنده ما دام التأسيس في توافق مع القانون، وهذا الأخير يحظر فقط أن يكون ذلك لدوافع دينية أو عرقية أو جهوية، وبالتالي لدوافع تتهدد البلد في وحدته الترابية والمذهبية وفي المكونات البشرية التي هي قوام الوحدة الوطنية. ثم لا شيء يمنع التعدد ما دام دستور البلاد يعلن التزامه الصريح بمراعاة حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا، وحرية الرأي تدخل في عداد تلك الحقوق. ويرى البعض الآخر، في مقابل ذلك، أن حال المشهد الحزبي في المغرب بلكنة وتشرذم تحمل عليهما أسباب مختلفة، أخصها: التشوف إلى الاستفادة من الدعم المالي المخول للأحزاب حال التوافر على النسبة الدنيا من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، ناهيك عن الأرباح التي تجنى من المتاجرة في بيع التزكية الضرورية للترشح لخوض المعركة الانتخابية (يشترط القانون المغربي، في الترشح للبرلمان، الانتماء إلى حزب سياسي معترف به)، من دون أن يغفل ذكر «الوجاهة» التي تنتج عن الوجود على رأس تنظيم سياسي.. إذن فإن الغالب على دواعي تأسيس حزب سياسي جديد هو المبررات الانتخابية أو، بالأحرى، ما يصح نعته بالدواعي «الانتخابوية» ومن ثم فنحن نبتعد كل البعد عن الدوافع النبيلة، بل نحن نسهم في التشويش على الممارسة الديمقراطية السليمة.

الحق أن في كلا المذهبين نصيبا من الصواب، والحق أيضا أن فيصل التفرقة بين التعددية السياسية المحمودة والمطلوبة معا يقتضي النظر إلى القضية بكيفية أخرى، وهذا ما نود محاولته في الفقرات المقبلة.

لا غرو أن أقوى مظاهر ضعف المشهد الحزبي في المغرب تؤول، في نهاية المطاف، إلى ضعف مشاركة المواطنين في الحياة السياسية للبلد، وذلك بدلالة شواهد، أهمها: التدني الشديد في الإقبال على التصويت في الاستحقاقات التشريعية. وهذه النسبة قد عرفت، في العقد الأخير، تناميا في وتيرتها، في الوقت الذي اتجهت فيه أعداد الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات نحو الارتفاع. فكأنما هنالك علاقة طردية بين تنامي عدد الأحزاب السياسية في المغرب وانخفاض نسب المشاركة في الانتخابات، والحال أنه لا شيء أدل على الديناميكية السياسية، في بلد من البلاد، من الإقبال على صناديق الاقتراع من جهة ومن التنافس في تقديم المشاريع السياسية الواضحة من جهة أخرى. وما حدث في المغرب قد كان، على وجه التحديد، عكس ذلك في الانتخابات التشريعية قبل 3 سنوات. وجد المواطنون المغاربة أنفسهم، في الحملة الانتخابية التي قادت المتنافسين على المقاعد البرلمانية، أمام برامج سياسية تشارف الثلاثين، ربما كانت مختلفة من شمولها لمختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وربما اختلفت من حيث الوضوح، غير أن سمة غريبة ومثيرة في العمل السياسي المعتاد كانت تجمع بينها، وهي سمة التشابه الشديد الذي يبلغ، في الأغلب الأعم من الأحوال، درجة التطابق. فكيف للمواطن المغربي أن يحمل صفة التعدد في الأحزاب السياسية محمل الجد وهو يرى ذلك؟ كيف له، وهو قيد كيلومترات قليلة من أوروبا، أن يفهم ذلك؟ وكيف يراد له أن يحمل التعدد الكثير في البرامج محمل المعقول وهو يشاهد في القنوات التلفزية لتلك البلدان الصراع يحتدم بين برنامجين سياسيين اثنين في الأغلب من الأحيان و3 أو 4 في النادر منها؟ من الطبيعي أن يتساءل: هل الوجود السياسي، في المغرب وحده دون باقي المعمورة، يحتمل وجود بضعة وثلاثين مشروعا سياسيا ومثلها من مشاريع مجتمع الغد؟

قد يقال: إن الأحزاب التي كانت (لمعطيات منطقية، موضوعية) متمكنة من استغلال القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية الرسمية كانت، في نهاية الأمر، معدودة من جهة أولى، وكان الحيز الزمني المسموح به لكل منها يتناسب مع مجموع الأصوات المحصل في الانتخابات السابقة، وهذا من جهة ثانية. غير أن هذا القول، متى صح اعتباره من جهة الحق في التعبير وكان موضع موافقة عليه وعلى الأسلوب المتبع فيه، فإنه لا يستقيم في تفسير ما يعرف في المغرب بظاهرة «العزوف السياسي». نعم، لا شك أن الظاهرة المشار إليها (وهي قوية لا مراء في ذلك) تجد تفسيرها في أسباب شتى، غير أن أقواها يكمن في واقع الكثرة الكثيرة والمحيرة في الأحزاب والبرامج.

كيف السبيل إذن إلى الخروج من حال إذا كان يسر المغامرين المتاجرين بالعمل السياسي فهو، لا شك في ذلك، لا يرضي الشرفاء المسكونين بحب الوطن المهمومين بإسعاده؟

يتحدث البعض، وربما أكثروا الحديث، عن «القطبية السياسية» (بمعنى إرجاع الكثرة في الأحزاب إلى مجموعات كبرى أو أقطاب يوحد بينها الحد الأدنى من الانسجام الآيديولوجي) والمشكل لا يوجد في قبول الفكرة، بل الحق أنها، في مستوى القول على الأقل، موضع إجماع عليها، وإنما الاختلاف في السبيل أو السبل التي تؤدي إليها. يجيبك المسؤول السياسي الجاد: نعم، القطبية ضرورية لمقاومة التعددية الزائفة، وهي السبيل لبلورة كيان سياسي قوي، غير أنها تستوجب التقارب الكبير في البرامج. والحكم صادق، في مستوى القول، غير أن صعوبات جمة سرعان ما تبرز حين الخوض في التفاصيل. ربما ذهب البعض إلى القول: لا مانع من نوع من الإملاء أو التوجيه من علٍ تغدو به «القطبية» نوعا من «الأقطاب»، القصد منه الحمل على التكتل في «أقطاب» ذات عدد معلوم أو متفاوض عليه.

الحق أيضا أن هذا النحو من النظر إلى الممارسة السياسية يحمل على طرح السؤال المبدئي التالي: هل من المقبول أن ينهض لمهمة «الأقطاب» هذه حزب أو «قوى» سياسية؟