دموع على الإسكندرية

TT

روح الأمة المصرية لا تزال تنزف دموعا بعد جرح الإسكندرية في قلبها ليلة رأس السنة، وهي تذكر المناسبة «زمان» قبل ستة عقود؛ والإسكندرانية من مختلف الأعراق والأديان يلهون مودعين السنة بالتقليد اليوناني بإلقاء «الكراكيب» القديمة من الشرفات، وبتحطيم أطباق تناول آخر عشاء العام في المطاعم والكازينوهات وأغلبها يونانية كأصول المجموعة السكانية الأكثر عددا في عروس البحر المتوسط.

الإسكندرانية حول العالم، المهاجرون والمغتربون من مئات الآلاف من مواليد الإسكندرية الذين طردهم العسكر في نهاية الخمسينات بعد نزع الجنسية عن الآباء (وأكثرهم عاش أغلب سنوات عمره في مصر) تنزف قلوبهم الدموع غضبا على ما حل بكنيسة القديسين في سيدي بشر.

سيدي بشر، منطقة المصيف الراقي والرمال الذهبية حول جامع سيدي بشر، وفيه ضريح يقال إنه للولي الصالح «بشر». رأيت في صباي يهودا ومسيحيين، مصريين وغير مصريين على بابه يوزعون الصدقات (المعروفة بالنذور) على الفقراء بعد صلاة العشاء وصلاة الجمعة، أو أثناء «مولد» سيدي بشر.

غير المسلمين خاصة من المسنين، وجدوا المسجد أقرب جغرافيا من المعبد أو الكنيسة (حتى السبعينات كانت منطقة سيدي بشر والعصافرة والمندرة تلالا من الرمال، وأقرب المواصلات ترام الرمل، على بعد ميل ونصف الميل).

المجتمع السكندري لم يكن فيه «غيتو» ولا «حارة يهود» بل تنوعت الأجناس والديانات في العمارة الواحدة. تنوع أديان أشقاء وشقيقات الرضاعة، أو داخل الأسرة الواحدة، كان أمرا مألوفا في منطقة الرمل. (كان في فصلي الدراسي نماذج تلاميذ: العم تركي أو سكندري مسلم، وخاله مسيحي مصري، وزوج خالته أرمني، وزوجة عمه يهودية، أو شامية مارونية). اليهودية أو المسيحية، تتبع نصيحة الجارة المسلمة بنذر الصدقة لسيدي بشر لتجد ابنتها «ابن الحلال» أو ينجح ولدها «الخايب» في الامتحان.

وبسبب نشأتي في فيللا كلاسيكية في سيدي بشر - قبل أن يخربها معماريو جشع التحديث - لم يخطر ببالي يوما الاستفسار عن ديانة أو جنسية من أصادفهم.

فاجأني تلميذ أردني التحق بمدرستنا عام 1959 بالسؤال «أنتم شيعة ولا سنة؟» وكان ردي ببراءة «يعني إيه؟»؛ ولولا شرح مدرس التاريخ (المستر كامبل جزاه الله خيرا) لما عرفنا الفرق.

ولهذا «تنزف» (ولا تذرف) عيون جيلي دمعا؛ فحتى بدأت العسكرتارية ترحيل مئات الآلاف من مواليد مصر لأنهم «يهود» أو لجريمة حمل آبائهم – الذين بنوا اقتصاد مصر - جنسية فرنسية أو بريطانية (وبعضهم لم يعرف فرنسا أو بريطانيا التي تركها رضيعا)، لم يعرف الإسكندرانية صراع «إحنا» و«هم».

وأكثر ما يؤلم القلب والروح هو موقف الصحافة المصرية مقروءة ومسموعة ومرئية (لا أستخدم لفظة إعلام)، واستمرارها وصف المسيحيين المصريين بالأقباط وهو خطأ لغوي وتاريخي وأنثروبولوجي. فالمصريون جميعا أقباط من الكلمة الإغريقية لوصف مصر ببلاد القبط ومنها الأقباط.

وما حدث أنه ما بين القرن العاشر والـ11، فإن سكان المناطق التي مكنتهم وفرة محاصيلها الزراعية من دفع ضريبة الجزية للحكام الفاتحين العرب المسلمين، ظلوا على ديانتهم المسيحية وفق مذهب القديس مرقس الأرثوذكسي (وتعرف أيضا بالكنيسة الشرقية). أما من لم يقدر على دفع الجزية فأشهر إسلامه وأصبحت الأغلبية مسلمة دون أي تغيير بيولوجي أو في الحامض النووي لهم، ولذا فجميع المصريين أقباط.. أقباط مسلمون وأقباط مسيحيون أو ديانات أخرى.

وحسب شهود عيان جريمة ليلة رأس السنة في سيدي بشر، كانت دماء الأقباط المسلمين والمسيحيين ذات لون واحد، وصراخهم واحد ودموعهم كآلامهم واحدة.

ومن العار النعامي أن تدفن الصحافة المصرية رأسها في رمال بسطها المسؤولون (للتهرب من مسؤوليتهم) وتروج خرافة مسؤولية القوى الخارجية، و«خيبة» اتهام بعض الصحافيين إسرائيل بتدبير الجريمة.

فليراجع الصحافيون المصريون أرشيف صحافتهم؛ فإرهاب جماعات متطرفة بقنابلهم في دور السينما ودار القضاء العالي يسبق قيام دولة إسرائيل بعشرين عاما، وقبل أن يظهر هتلر ويضطهد اليهود مسرعا بهجرتهم إلى فلسطين. وعندما قال مرشدهم «خلصونا من هذا القاضي»، واغتالت جماعته القاضي الخازندار أمام زوجته وأطفاله عام 1931 لم يكن هناك إسرائيل. بل إن كثيرا من اليهود المصريين (وكانوا نشطاء في الحركة النقابية العمالية والحركات الشيوعية المصرية) شاركوا في ثورة 1919 وتفويض سعد باشا محاميا للأمة المصرية ليقودها نحو الاستقلال، مع أشقائهم المسيحيين والمسلمين والأوروبيين المتمصرين. في الثلاثينات والأربعينات شارك المصريون الوطنيون من اليهود إخوتهم المسيحيين والمسلمين في الحركة الوطنية (التي ضمت جميع الأحزاب من أقصى اليمين لأقصى اليسار) للضغط على الإنجليز لإخلاء قواعدهم من مصر، وكان شعار الأحزاب كلها «الجلاء التام» ما عدا جماعة الإخوان التي رفعت مطلب تطبيق الشريعة وتحجيب النساء، ولا ذكر للجلاء كمطلب للجماعة في هذه الفترة. ولو وجد التلفزيون وقتها لظهر فيه مرشدها صارخا «طز في الجلاء.. فليبق الإنجليز إذا طبقت الشريعة».

أناشد القراء اليوم أن يطالعوا الصحافة المصرية ويشاهدوا التلفزيون الحكومي الرسمي، هل استضاف التلفزيون أصحاب العقول المستنيرة لدحض فتاوى الشعوذة والتطرف والإرهاب؟

هل تابعت الصحافة القومية والراديو والتلفزيون الحكومي أئمة المساجد المصرية، وأفادونا بعدد الأئمة الذين أدانوا العمل الإرهابي ضد كنيسة القديسين من فوق منابرهم، التي جاهروا من فوقها بدحر الكفار ونصرة المسلمين؟

أليس في إدانة العمل الإرهابي ضد كنيسة يتعبد فيها مصريون بتعاليم ابن العذراء مريم «التي فضلها» الله في القرآن «على العالمين»، نصرة إذن للإسلام؟

أين فتوى الأزهر من تفاخر القرضاوي (وهو خريج الأزهر) بنجاحه في تدنية الإسلام من منزلته الروحانية وعلاه الثيولوجي إلى السياسة بآثامها وأكاذيبها وممارستها الدنيئة؟

المعلقون المصريون يكررون أن العنف نبتة شيطانية غريبة عن تربة المحروسة، وهذا نصف الحقيقة؛ أما النصف الآخر فهو عجز جهاز مناعة أدمغة أجيال «وزارة التربية والتعليم» عن مقاومة المرض الشيطاني الذي كان محاصرا بمفهوم «وزارة المعارف» منذ عصر تنوير رفاعة الطهطاوي حتى عصر عميد الأدب العربي طه حسين.

يا خسارة يا مصر!