مصر المعتدلة في مواجهة التعصب الديني

TT

منذ خلق الله تعالى الإنسان، وحتى قيام الساعة، ستظل الأديان هي القضية الكبرى المختلف عليها بين بني البشر، هي أساس الخلاف والاتفاق، ليس العرق ولا اللون ولا الجنسية.

والدين اتخذ هذا الموقع لأنه نظام حياة دستوري يلتف حوله الناس، فكان رقم واحد في تسجيل هوية الأفراد وتصنيفهم، فاكتسب بذلك قوة هائلة من المجتمع. حتى اللادينيون تمايزت هويتهم بناء على هجرهم للعقائد الدينية.

فهمت الجماعات المتطرفة قوة الدين والطائفة الدينية في كونها قوة سلم مؤثرة أو قوة تدمير عظيمة، فاستخدموه لطعن المجتمع في خاصرته، وتفكيكه من الداخل، من عمق هويته وثقافته، عمدوا إلى هذا النسيج المتجانس من خيوط الدين المختلفة المتداخلة والمتناغمة ليفتلوا خيوطه، فيضطر كل لون منهم للدفاع عن موقعه، فتشغله الأنا عن الكل، والواحد عن الجمع.

الجماعات المتطرفة، والدول والمنظمات التي تدعمها، أثارت الخلاف الديني والطائفي في الدول التي تستهدفها، فأشعلت فتيل التعصب الديني، فحمل كل فريق سلاحه دفاعا عن معتقده، وحقا، هم يستميتون في سبيل الحفاظ على هويتهم الدينية، ويملكون من قوة الدفع الذاتية ما يجعلهم ينافحون عن دينهم حتى آخر لحظة في حياتهم. هذا المجتمع الذي تحول إلى متحفز وثائر هو مجتمع ضعيف في النهاية، سهل الاختراق، قريب النيل، رخو الأركان، لذلك ظل العراق منذ عام 2003 وحتى الآن دولة ضعيفة لأنها مخترقة من ميليشيات عسكرية تعمل باسم الدين، أرجأت استقراره وعطلت نموه لأنها فرقت الجماعة وشرذمتهم.

في العراق دليل حديث على أن اللعب بورقة الطائفة الدينية يقضي على مشروع الدولة، لأنه يشغل الحكومة والناس بالنزاع أو الترقب للنزاع، حيث توجه تنظيم القاعدة إلى توسيع دائرة الخلاف الديني فأدخل المسيحيين على خط النار بإعلانه فجأة أنهم أهداف مشروعة، وبدأ فعليا في التنفيذ من خلال استهداف كنيسة سيدة النجاة في الكرادة، مع أن الكنائس في العراق كانت دائما أهدافا سهلة لتعزيز حالة الإرباك الأمني العامة لأنها بلا ميليشيا تحميها، فهي ليست شيعية متطرفة مدعومة من إيران وليسوا تنظيم القاعدة السني. كما أن هذا الإعلان من «القاعدة» ليس لمواقف المسيحيين السياسية أو تأثيرهم في الحكومة أو البرلمان، فهم أقلية بلا تأثير يذكر، إنما اتخذت قاعدة العراق هذا الموقف لتصدير أعمالها إلى مصر، حيث تمثل تداعيات التحول الديني من معتقد إلى آخر ذريعة لتأجيج الصراع بين الأديان وإشغال الحكومة والشارع المصري بمشكلة داخلية، فكان استهداف كنيسة القديسين في الإسكندرية إيذانا ببدء العمل على تقويض الاستقرار الداخلي في دولة فشلت محاولات الميليشيات العسكرية كحماس وحزب الله في اختراقها أمنيا، وفشلت جماعات الجهاد المتطرفة المصرية سابقا من الاستمرار في إلحاق الأذى بمجتمعها الذي رفضها، فكانت مصر دولة التنوع الثقافي والفكري من أقصى اليمين إلى طرف اليسار. إلا أنها معرضة اليوم لفتنة دينية كبيرة ما لم يدرك المصريون أن الغرض من استهداف الكنائس ليس مسيحيي مصر بل جسد الدولة المصرية كله، وأن من استهدف الكنيسة اليوم بحجة نصرة سيدتين أعلنتا إسلامهما سبق أن استهدف قبل ذلك المساجد بلا حجة.

في مثل هذه الظروف التي قد يتمكن فيها التعصب الديني من العقل، لن يستطيع أن يهدئ من روع الناس ويوجههم ويحد من أفكارهم الجانحة للانتقام من الذين يتهددون عقيدتهم سوى القيادات الدينية المعتدلة، هم من يملكون مفاتيح الكنائس والمساجد، هم الذي يخاطبون عقول ووجدان الآلاف من الزاحفين إليهم كل يوم، حتى القيادات السياسية لا تملك هذا التأثير المباشر في هذه الحالة، اليوم لو خرج الرئيس المصري حسني مبارك بكل حكومته منددين بهذه العملية الإرهابية لن يكون تأثيرهم على الناس أقوى من البابا شنودة بطريرك الأقباط الأرثوذكس، لأن رجل الدين في هذا الموقف هو الذي يوجه مشاعر أتباع دينه وينظمها، هو من يستطيع أن يطفئ جذوة غضبهم أو يسعرها، لذلك يعول كثيرا على وحدة الموقف والرأي عند رجال الدين من كل الطوائف في مواجهة أعمال التنظيمات المتطرفة الإجرامية حتى لو جاءت ضد دين إخوانهم، لأن ضرب المجتمع - أي مجتمع - في دينه، هو ضرب لمبدأ الدين نفسه وحرية الفرد في اختيار معتقده بلا إكراه كما جاء في القرآن الكريم، ولا تعدي عليه كما جاء في الإنجيل، ولا تسلط من الطغاة كما في التوراة.

* جامعة الملك سعود