عزيزي النفط.. ماذا فعلت؟

TT

ماذا تعني كلمة حكمة؟ ولماذا أركز على الحكمة؟ في مقالي السابق ذكرت عبارة قالها رئيس الوزراء القطري. وبعد هذا المقال سيطرت قضية الحكمة على تفكيري، ولذا شعرت بضرورة كتابة شيء عنها. يقول جلال الدين الرومي عن الحكمة: إن الصراعات أو الخلافات داخلنا أعظم من الحروب الدائرة في العالم.

ومن الواضح بدرجة كبيرة أننا في الوقت الحالي نتوق إلى الحكمة أكثر من أي وقت مضى؛ فالحكمة هي مصدر الخير الكثير؛ حيث يقول القرآن الكريم: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ» سورة البقرة، الآية 269.

وفي الكتاب المقدس، نجد الكثير من النصوص التي توضح قيمة الحكمة، وعلى سبيل المثال جاء في سفر الأمثال: «قنية الحكمة كم هي خير من الذهب.. وقنية الفهم تختار على الفضة».

كيف يمكننا وصف الحكمة؟ كما نعلم فإن الفلسفة لغة العقل؛ لذا فهي تعتمد على الفكر. وعلى الجانب الآخر، العواطف والحب هي لغة القلب ولغة الفن. ويوجد في الأدب العالمي الكثير من المواجهة بين الحكمة والحب أو العاطفة والعقل. وفي حياتنا نتذكر بعض الرجال الأفذاذ الذين كانوا حكماء. وتعتبر آراؤهم ومواقفهم وكلماتهم وحياتهم مختلفة تماما عن تلك الخاصة بنا. ولديهم أسلوب خاص بدرجة كبيرة، ويمكننا ملاحظة شعاع الحزن في أعينهم.

كان الراحل عبد العزيز التويجري والراحل الطيب صالح حكيمين. وكان هناك جسر فريد يربط بينهما.. إنه المتنبي!

ومن الواضح بدرجة كبيرة أن التويجري وصالح كانا على دراية كبيرة بالمتنبي. ويبدو بالنسبة لي أن المتنبي رسم وزين عقليهما وقلبيهما.

كان هذا الاجتماع لا يمت بصلة لهذا العالم، فقد كان مثل قطعة من الفردوس، إنها الفردوس المفقود. في أحد الأيام كنا نتحدث عن الاغتراب والمعاناة والآلام التي تثقل كاهل كل حكيم. وأتذكر ذلك بوضوح، وكأنه حدث أمس، وذكرت بيتين لأبو الفتح البستي:

لا تلمني في اضطراب تراه

في كتاب أخطه أو قريض

وأعز الأشياء عندي وجودا

صحة القول في الزمان المريض

هل يوجد رابط مباشر بين الحكمة والآلام؟

جاء في سفر الجامعة (الإصحاح الأول، الآية الثامنة عشرة): «في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علما يزيد حزنا». وجاء في القرآن أن الحكمة هي مصدر الكثير من الخير، وجاء في الكتاب المقدس أن الحكمة تزيد الشعور بالحزن! وأعتقد أن هذين التفسيرين مثل وجهين لعملة واحدة. وبسبب ذلك نجد أن حياة الأنبياء، ومعهم نبي الإسلام، شهدت الكثير من المعاناة والآلام، وبالطبع اتسمت بالحكمة. ويبدو أن أرواحنا نسجت من هذه الظاهرة الخالدة: الحكمة والألم.

كنت أقرأ في وقت قريب الكتاب الأخير للراحل عبد العزيز التويجري للمرة الثالثة. ويحمل الكتاب عنوان «عزيزي النفط.. ماذا فعلت؟».

وبسهولة وجدت الحكمة في الكتاب. ووجدت أن شعور التويجري بالاغتراب يكمن بين سطوره ومنتشر في مختلف أنحاء كتابه.

وتشكل الحكمة والاغتراب والحزن ثالوثا داخل الكتاب. وكي أكون صريحا في قولي، فإننا في هذه الأوقات الصعبة والشديدة نحتاج إلى الحكمة أكثر من أي وقت مضى. ونحن في حاجة إلى التفكير في المستقبل وفيما نسعى إليه.

كنت وزيرا للثقافة في أول مرة أجتمع فيها مع الشيخ التويجري. وشرح لي أننا كمسلمين وعرب وإيرانيين في حاجة إلى رؤية واضحة جدا.

ولسوء الحظ ليست لدينا رؤية. وعلى سبيل المثال فإنه في هذه الأيام اجتمع زعماء دول إسلامية داخل طهران. ولو تحدثت معهم وسألتهم عن رؤيتهم للإسلام والدول الإسلامية وفلسطين، ستجد من الصعوبة بمكان الحصول على إجابة محددة ومجمع عليها. نحن نتحدث من دون تفكير ونأكل من دون تذوق الطعام. وقال إنه ليس معه أي شهادات ولم يذهب إلى مدرسة أو جامعة. وأشار إلى أن الصحراء برياحها وربيعها وجمالها ونباتاتها وأزهارها كانت بمثابة المعلم والفصل بالنسبة إليه.

وكان واضحا أن الشيخ التويجري لم يكن مثل أي رجل آخر. وقلت للسكرتير الخاص بي أن يلغي جميع الاجتماعات، فقد أردت الإنصات إلى ضيفي. وقلت له إنني أريد الاستماع إليه وإن الأمر يعود له، فأنا كابن يحبه ويريد الإنصات إليه. وكانت هذه بداية فصل جديد من حياتي، بالنظر إلى عيني الشيخ التويجري والإنصات إلى كلماته. وعندما كنت أقرأ كتاب «عزيزي النفط» شعرت وكأنني أنصت إليه وإلى المتنبي.. سألني قائلا إنه بما أني والطيب صالح نعيش داخل لندن، هل نتقابل؟ كانت عينا الطيب صالح السوداوان والواسعتان تلمعان. تلوت قصيدة امرئ القيس:

أجارتنا إنا غريبان هاهنا

وكل غريب للغريب نسيب

اغرورقت عينا الطيب صالح بالدموع، ولمس التويجري يده اليمنى. وكتب التويجري: أنا رجل مسلم، عربي، أكتب هذا بكاء وحسرات على الورق، ولعل في بكاء الشيخ المسن في مثل هذا الحال ما يشفع له عند الله وخلقه!! ص 166.

سبب هذا البكاء الحكمة «في كثرة الحكمة كثرة الغم!».

تمثل الحكمة والغم والمعرفة الفردوس المفقود في حضارتنا وثقافتنا.. لقد دمر الساسة كل شيء بألسنتهم الخشبية. وكان صدام حسين واحدا من هؤلاء. ولنفكر فيما قاله التويجري: «والذين تخشبوا وظنوا أنهم جذوع لا تهزها الأعاصير سقطوا كأعجاز نخل خاوية» ص 203.