السودان.. ماذا سيحدث للشمال بعد الانفصال؟

TT

«باي باي الشمال».. هكذا عبر جنوبيون عن فرحتهم خلال تصويتهم في الاستفتاء على تقرير المصير، حاسمين أمر الانفصال حتى قبل أن تنتهي عملية التصويت. فنتيجة هذه العملية كانت معروفة ومحسومة قبل أن يتوجه الجنوبيون إلى مراكز الاقتراع، لأن كل المؤشرات منذ سنوات كانت تدل على ما هو قادم، والعقلاء الذين قرأوا الأحداث وفهموا مغزى السياسات التي طبقت على الأرض، عرفوا أن الشمال والجنوب يسيران في طريق الطلاق.

اللافت أن فرحة الجنوبيين بالانفصال القادم، قابلتها فرحة في بعض الأوساط المحسوبة على النظام في الخرطوم. فقد كتب الطيب مصطفى، خال الرئيس عمر البشير، ورئيس مجلس إدارة صحيفة «الانتباهة»، مقالا يدعو فيه الشماليين للفرح ونحر الذبائح وإقامة صلاة الشكر لأن الاستفتاء كان يوم فكاك الشمال في نظره. بل إنه مضى ليقول: «أذهب الله عنا الأذى، وعافانا ولم يبق كثير شيء، وما عرمان وعقار والحلو وأتباعهم (من القيادات والعناصر الشمالية في الحركة الشعبية) وأشباههم من بني علمان، بمعجزين وسنبدأ معركتنا معهم اعتبارا من اليوم بإذن الله».

هذا الكلام المتطرف ليس لمغرد نشاز، بل إنه يصدر عن شخص قريب من دوائر الحكم، يكتب في صحيفة صدرت برضا الدوائر الرسمية، ويعبر عن تيار موجود في أوساط المؤتمر الوطني الحاكم، وفي أوساط الجبهة القومية الإسلامية المتخفية وراء لافتة المؤتمر وتمسك بمفاصل الحكم منذ أن دبرت انقلاب عام 1989. ومواقف التيار المتشدد في أوساط الحكم تنذر بفترة قمع وتشدد مقبلة، واحتمالات تصعيد ومواجهات في الشمال. صحيح أن هناك أطرافا داخل النظام تدعم فكرة توسيع الحكومة وإشراك قوى المعارضة فيها قبل إعلان دولة الجنوب رسميا في يوليو (تموز) المقبل؛ وذلك لكي تصبح كل الأطراف شريكة في موضوع الانفصال ولا تتحمل الحكومة المسؤولية وحدها. لكن هذه الأطراف تبدو أقلية حتى الآن؛ لأن النظام يشعر أنه رتب لسيطرته على الشمال وأجرى انتخابات مددت للبشير ولحزب المؤتمر الوطني في الحكم، ولن يقبل النظام باقتسام الحكم مع معارضة يشعر أنها ضعيفة ومشتتة، اللهم إلا إذا رأى أن وجودا ديكوريا لها في السلطة قد يخدم أهدافه، أو إذا شعر بتغيير في مجرى الأمور يهدد بقاءه. الغريب أن هناك مسؤولين في النظام بدأوا يدلون بتصريحات عن أن الحكومة وحزبها، المؤتمر الوطني، غير مسؤولين عن انفصال الجنوب، وأن المسؤولية في ذلك تقع على الغرب وإسرائيل لأنهما شجعا على الانفصال. وهذه بالطبع شماعة معروفة و«أسطوانة مشروخة» في العالم العربي من كثرة الاستخدام. فالمسؤولية لا تجزأ والنظام، أي نظام، يبقى مسؤولا عن تبعات سياساته واتفاقاته التي وقع عليها. ووحدة تراب الدولة هي مسؤولية الحكومة، والفشل في حمايتها يعتبر قمة الفشل لأي نظام، لأن بقاء الأوطان أهم من بقاء الأنظمة.

النظام السوداني وضع لنفسه - بلا شك - استراتيجية لمواجهة مرحلة ما بعد انفصال الجنوب، اتضح منها حتى الآن مسألة فرض أجندة سياسية جديدة تتماشى مع فكر وأجندة الجبهة الإسلامية، وتشغل الشارع السوداني بنقاشات أخرى بعيدا عن موضوع الجنوب. فقد تحدث الرئيس البشير عن مسألة تعديل الدستور والتوجه للدولة الإسلامية، وتبعه في الحديث عن الموضوع نائبه علي عثمان، القيادي الأقوى داخل تنظيم الجبهة الإسلامية منذ تنفيذ الانقلاب العسكري قبل 21 عاما، والرجل الذي يشار إليه باعتباره يمسك الكثير من الخيوط داخل مفاصل النظام وحزب المؤتمر الوطني الحاكم. والعودة إلى الحديث عن دولة الشريعة يراد بها صد الهجمات على الحكومة بسبب الانفصال، ودمغ أي هجوم أو معارضة بأنها معارضة لأسلمة الدولة. وكان لافتا أنه مع بروز الحديث عن موضوع أسلمة الدولة صدر بيان من مجموعة إسلاميين في الخارج لدعم السودان في مواجهة المؤامرات ولتحريم التصويت للانفصال. كلام كثير يمكن أن يقال عن البيان الصادر من «علماء مسلمين»، وعن توقيته في الوقت الضائع، لكن الملاحظة المهمة هي أن كثيرا من الموقعين على هذا البيان كانوا أيضا من الموقعين على بيانات سابقة لمؤازرة الجبهة الإسلامية في السودان، كما كان بعضهم طرفا في تحركات قادها الدكتور حسن الترابي بعد غزو صدام حسين للكويت.

ربما لم ينس كثير من السودانيين أن الفترة الأولى للنظام التي رفعت فيها شعارات إسلامية ترافقت مع إجراءات قمعية شديدة، مما يثير مخاوف الكثيرين اليوم من أن تتجه الأمور في طريق التشدد؛ خصوصا أن النظام يشعر بالقلق من احتمال تصاعد أزمة دارفور، ومن أزمات اقتصادية بعد فقدان نسبة عالية من موارد النفط مع انفصال الجنوب.