«الماجدة» أول من بشر بمجيء بن علي خلفا لـ«المجاهد الأكبر»

TT

قبل 27 عاما كانت تونس قد شهدت انتفاضة كهذه الانتفاضة الأخيرة أُعطيت اسم «انتفاضة الخبز» وكان زين العابدين بن علي يومها على رأس وزارة الداخلية التي كانت ولا تزال أهم الوزارات في هذا البلد الذي ابتلي منذ استقلاله في عام 1956 بالكثير من الانقلابات «الناعمة» وأولها انقلاب الحبيب بورقيبة (المجاهد الأكبر) على رفيق كفاحه الطويل، صالح بن يوسف، الذي جرى اغتياله، دون معرفة الفاعل رغم مرور كل هذه الأعوام، في ألمانيا الغربية، في ذلك الحين، التي كان ثاني رموز الكفاح من أجل الاستقلال وقد لجأ إليها تحت ضغط ذوي القربى والهروب من غدر رفاق مسيرة التحرير الوطني.

عندما انفجرت «ثورة الخبز»، التي جاءت ردا على الرفع المفاجئ لأسعار هذه المادة الاستهلاكية، كنت في تونس مع زميلنا الكبير عماد الدين أديب - حيث كان هو منتدبا من قبل صحيفة «الشرق الأوسط»، بينما كنت أنا مندوب مجلة «المجلة» - وصدف أن تعرضت السيارة التي تقلنا، بينما كنا عائدين من منطقة الحمامات، إلى كمين في منطقة قرطاج انهال عليها بالحجارة مما أدى إلى تحطيم زجاجها الأمامي مع إصابات خفيفة لكلينا بالزجاج المتطاير.

منذ ذلك الحين ومن خلال ما أجريناه من لقاءات، بعضها نشر في وقته وبعضها الآخر لم ينشر، عرفنا أن هذا الرجل الذي شق طريقه نحو الرئاسة بتخطيط دقيق ومتواصل، هو الذي افتعل غلاء أسعار الخبز والمشتقات الأخرى للدقيق، وهو الذي دفع الناس للتظاهر والثورة، وهو الذي أعطى أوامر التراخي مع تلك الانتفاضة في البداية، وهو الذي أصدر أوامر قمعها بقوة وشراسة، وكل هذا جعله يبرز على أنه الرقم الرئيسي في معادلة الحكم وجعل الحبيب بورقيبة (المجاهد الأكبر) يختاره من بين عشرات الرجال الطامعين والطامحين ليكون ساعده الأيمن.

كان «المجاهد الأكبر» في تلك الفترة قد أصبح عبئا على النظام وعلى الدولة وعلى الشعب التونسي؛ فهو أصبح في أرذل العمر وأصبحت قراراته المتقلبة تخضع لمزاجه الشخصي ولأمزجة الذين كانوا يحيطون به، وهم كثُر، من بينهم ابنة أخته، وقد دفعه هؤلاء إلى طلاق زوجته، الوسيلة بن عمار، التي كان لها دور من غير الممكن إنكاره خلال المسيرة الاستقلالية قبل نيل الاستقلال وبعد ذلك، والتي، وهذه حقيقة يعرفها التونسيون، وإن هي كانت تشارك زوجها في معظم قراراته، كانت تهتم بالشؤون السياسية أكثر من اهتمامها بالمال والثروات، وهذا ما جعلها تنهي علاقاتها بالحبيب بورقيبة دون الانخراط في الفساد الذي كان مستشريا ودون التعاطي بالشؤون التجارية والمالية كغيرها.

لهذا؛ ورغم أن احترام الشعب التونسي لـ«المجاهد الأكبر» لم يتزعزع، فإن مسألة البديل غدت منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي مطروحة بقوة وإلحاح، وبدأ التونسيون يطرحون أسماء رموز وقيادات تلك المرحلة. وهنا وفي هذه الأجواء برز وزير الداخلية ومدير الأمن العام السابق، زين العابدين بن علي، بعد قمع «انتفاضة الخبز» عام 1984 بشراسة وبقوة، كالسهم المنطلق من قوس مشدود الوتر، وأصبح مجرد ذكره يصيب أكثر الرجال شجاعة وجرأة بالخوف وارتعاد الفرائص، والغريب أن الناس العاديين قد منحوه إعجابهم وبدأوا يراهنون عليه ليخلصهم من الحالة السائدة التي أصابت البلاد بالشلل، وأدت إلى إصابة الدولة بالإنهاك، وجعلت توجهاتها السياسية غير متزنة وغير ثابتة وخاضعة لمزاج ذلك الرجل الذي أصبح كلما استيقظ من قيلولة ما بعد الظهر يصدر قرارا يلغي من خلاله كل قراراته السابقة.

بعد فترة من «انتفاضة الخبز» تلك ذهبت مجددا من لندن إلى تونس لمتابعة تطورات الوضع الفلسطيني وخلال أحد الصباحات تلقيت اتصالا هاتفيا من صلاح خلف (أبو إياد) - رحمه الله - دعاني فيه إلى مرافقته لتناول الإفطار مع شخصية مهمة قال إنها ستفيدني كثيرا في معرفة ما يجري في تونس وأنها ستعطيني، كصحافي، ما أريده لمعرفة مستقبل الحكم والنظام في بلد كانت كل المؤشرات تشير إلى أنه مقبل على التغيير الذي بقي شعبه في انتظاره منذ انتفاضة عام 1984 التي كانت المحطة الرئيسية على طريق وصول زين العابدين بن علي قبل الآخرين إلى موقع رئاسة الجمهورية.

كانت الشخصية التي دعاني أبو إياد لتناول الإفطار معها في منزلها هي الوسيلة بن عمار، التي كان المحيطون بـ«المجاهد الأكبر» قد دقوا الأسافين بينها وبينه وأرغموه على طلاقها، ولأن الحديث كان قد انتقل من وصلة المجاملات إلى وصلة «البديل» ومستقبل النظام ومن هو صاحب الحظ الأوفر؛ فقد بادرتُ من قبيل «التشاطر» الصحافي إلى قول: «إن رئيس الوزراء، الذي هو محمد مزالي، هو صاحب الحظ الأوفر.. ويبدو أنه قد رتب أوراقه ليضرب ضربته عندما تحين اللحظة المناسبة».

ضحكت الوسيلة بن عمار وضحك معها أبو إياد للمجاملة، أما أنا فقد بقيت صامتا أنتظر ما ستقوله هذه «الماجدة»، التي بدأت تراودني فكرة تدوين مذكراتها عن أهم المسؤولين العرب الذين عرفَتْهم عن قرب، وكانت المفاجأة أن أطلقت بعض الشتائم المحببة باللهجة التونسية، ثم أردفت قائلة: إن «البديل» هو زين العابدين بن علي، وأن «سي مزالي» لا حظّ له.. إنه إنسان طيب ومثقف، لكن الرجال الذين يصلحون للحكم ليس من مواصفاتهم هذه المواصفات وبالطبع أيضا ليس من مواصفات الفلاسفة والشعراء أيضا.

ضحك أبو إياد وضحكت أنا أيضا وأنا أحاول استدراج «الماجدة» إلى المزيد من المعلومات، لكن محاولتي فشلت بانتهاء الجلسة. وهكذا ما إن وصلت إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه حتى بدأت بكتابة موضوع الأسبوع الذي نشرته مجلة «المجلة» بعد أيام، وكانت المفاجأة التي أبلغني بها رئيس التحرير، عثمان العمير، أن «سي مزالي» - رحمه الله - غاضب أشد الغضب مما كتبته، وأنه شكاني إلى مسؤول سعودي كبير (....) لأنني بكتابة ما كتبته متورط بمؤامرة ضده وضد تونس. وحقيقة أنه لولا جرأة رئيس التحرير لربما كنت قد ودعت الشركة السعودية للأبحاث والتسويق منذ ذلك الحين.

في كل الأحوال لقد صدقت «الماجدة» في كل ما قالته، فرئيس الوزراء محمد مزالي كان قد أعد خطة بالاستناد إلى تقارير أطباء مختصين تقضي بأن «المجاهد الأكبر» لم يعد قادرا على مزاولة الحكم، وأنه استنادا إلى المادة 56 والمادة 57 من الدستور يجب أن يتنازل عن مسؤولية الحكم لـ«الوزير الأول»، لكن تردد الأستاذ المثقف وحساباته قد أفقدته القدرة على التنفيذ. وكان بن علي يومها قد قطع المسافات بسرعة فبادر باسم رئيس الجمهورية، بالطبع، إلى إقصاء مزالي الذي فر هاربا من تونس برا إلى الجزائر ومنها إلى فرنسا، حيث عاش لاجئا سياسيا حتى انتقل إلى جوار ربه في عام 2010، رحمه الله، ونصب مكانه رشيد صفر لفترة انتقالية قام بعدها بالاستيلاء على موقع رئاسة الحكومة بالإضافة إلى وزارة الداخلية. وبادر بعد ذلك فورا إلى تطبيق هذه الخطة الآنفة الذكر بإخراج الحبيب بورقيبة من قصر قرطاج وإرساله ليقضي باقي ما تبقى من حياته في مسقط رأسه (المونستير)، واستبدال البطانة السابقة ببطانة جديدة من بينها بعض أقارب زوجته ليلى الطرابلسي الذين أوصلوه إلى ما وصل إليه، حيث حصل ما حصل بوقوع ما يشبه انقلابا عسكريا أخرجه من قصر قرطاج وأرسله مغفورا إلى الخارج ليصبح لاجئا سياسيا مثله مثل كثيرين من قادة العالم الثالث الذين سبقوه إلى هذه النهاية.