الثقافة الحوارية

TT

في ثقافتنا العربية الإسلامية، في عصورها المشرقة، سنة حميدة كان الحرص على مراعاتها من قبل الكتاب حرصا أكيدا واعتبارها الأساس السليم في كل حوار مثمر بين الخصوم. تقضي تلك السنة بالبدء في كل مناظرة أو احتجاج بإيراد رأي الخصم كاملا دون تحريف فيه أو انتقاص منه. ونستحسن، في هذا الصدد، أن نذكر الرأي الذي يصدر به أبو الحسن الأشعري كتابه الأشهر «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين». ومن المعلوم أن شيخ الأشعرية الأول كان يقصد بكتابه المذكور التأريخ للآراء والمذاهب، على اختلافها، مع الانتصار للمذهب الذي يصدر عنه. يقول: «لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات. ورأيت الناس، في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ويصنفون في النحل والديانات من بين مقصر فيما يحكيه وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه وبين متعمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه». وحكم الأشعري على من يسلك من المؤلفين سلوكا مماثلا حكم صارم: «ليس هذا سبيل الربانيين ولا سبيل الفطناء المميزين». صاحب السلوك المماثل يجمع إذن بين جريرة الابتعاد عن طريق الشرع والتنكب عن درب العقلاء. نذكر كذلك، على سبيل التذكير بالتقاليد الفكرية الراقية في تراثنا العربي الإسلامي، أن علماء الكلام كانوا يلتزمون في مؤلفاتهم بمنهج لا يكادون يحيدون عنه، إلا في أحوال نادرة. والمنهج المشار إليه هو عرض رأي الخصم المعارض قبل مهاجمته وهم يشترطون في ذلك الدقة والوضوح وذلك ما كان يعرف بـ«آداب المناظرة». ولو أننا تمعنا برهة وجيزة في دلالة «المناظرة» لتبين لنا أنها تحمل معنى «النظير» و«المناظر» معا. فالخصم مناظر لأنه نظير، أي كفء تصح محاورته. تقتضي آداب المناظرة وهي ما يصح نعته، في لغتنا المعاصرة، بقواعد الحوار الإيجابي ومقتضيات النزاهة الفكرية عدم إخراج المتكلم الخصم من دائرة علماء الكلام. يقول أحد كبار المتكلمين في ذلك: «الخصم، وإن خطأناه، لا نخرجه من علماء الكلام». كما أن التقاليد المرعية كانت تحمل المتكلمين، وهم في وطيس المعركة المذهبية، على التمييز بين الحكم بالخطأ على ما يقوله الخصم والحكم على الخصم بالكفر. من ثم، القاعدة الواضحة التي يشرعها الشهرستاني: «التكفير حكم شرعي، والتصويب حكم عقلي».

الحق أننا أمام درجة عالية من التجرد ومن التشبث بالشروط التي يكتسب بها الكلام الجدية ويكون أقرب ما يكون من الموضوعية العسيرة المنال. يجوز لنا، حين النظر في الكيفيات التي كان الفكر العربي الإسلامي في عصره الذهبي يؤرخ بها للفرق والملل المخالفة ويعرض لآرائها، أننا أمام ثقافة الحوار والتفاهم. نقول، دون إجحاف، إن ثقافتنا العربية الإسلامية في المرحلة التي نشير إليها تمثل «الثقافة الحوارية» في أبهى صورها من حيث إن هذه الأخيرة تعني، في جملة ما تعنيه، الاعتراف بالاختلاف في الآراء والنحل والمذاهب واقعا قائما لا سبيل إلى التغاضي عنه. وهي تعني، ثانيا، الإقرار بحق المخالف أن يكون كذلك. وهي، ثالثا وأخيرا، تتشوف إلى سبل التواصل والتفاهم بواسطة الحوار. إننا، إذ نذكر هذه الخصائص، فنحن نتحدث عن الثقافات الرفيعة ونعلم على سمات الحضارات العظيمة وهذه الأخيرة ليست كذلك إلا لأنها تكون دوما في موضع الإقبال على الغير، لا في حال النفور منه، وحضارتنا العربية الإسلامية كانت في أوجها كذلك، فكانت حواضرها الكبرى ترجمة لذلك. ذلك ما كان عليه الحال في بغداد، زمن المأمون وبيت الحكمة في الأزمنة الموالية التي شهدت ظهور النجوم الزاهرة في تراثنا العربي الإسلامي: في اللغة والنحو والبلاغة وعلم الكلام والمنطق والفلسفة، فضلا عن فنون المعمار والأدب الشعبي في أصنافه المتنوعة. وكذلك كان الشأن في القاهرة وقرطبة والقيروان وفاس وفي أشبيلية وغرناطة والرندة وسواها من الربوع الأندلسية. غير أن الأحوال انقلبت إلى نقيض ذلك كله في العهود الموسومة بعصر الانحطاط. لقد كانت سفولا وانحطاطا وكان ذلك بفعل عوامل شتى أبرزها الانطواء على الذات والركون إلى التقليد بدل التطلع إلى الإبداع والقناعة من المعرفة بالمصنفات الرديئة التي تحصر العلم في التلخيصات الخالية من الطلاوة وفي تعليقات وحواشٍ أشبه ما تكون بالمعميات التي تنفر من الطلب وتحمل على الانغلاق والتعصب وكيل التهم الرخيصة بالابتعاد عن سبيل الرشاد لكل مخالف في الرأي وإن لم يكن مخالفا في الاعتقاد.

نحن اليوم، في ظل شيوع فكر «التكفير» أمام شرعية التساؤل: أين نحن من زمان «الثقافة الحوارية» كما فهمها ومارسها أجدادنا؟ هل نحن نمتلك القدرة، فعلا لا ادعاء، على التمييز في حوارنا الديني، متى وجد، بين «الحكم الشرعي» من جانب و«الحكم العقلي» من جانب آخر؟ هل يأنس أغلبنا من نفسه القدرة على التفرقة، في إطلاق الأحكام، بين «التخطئة» وبين «التكفير»؟ لا بل إني أذهب أبعد من ذلك فأقول: هل الثقافة العربية الإسلامية تمت اليوم بصلة إلى الثقافة الحوارية؟ أخشى أن يكون الجواب سلبا، لا بدافع تشاؤم بغيض، بل بدلالة ما يشي به واقع الحال. لا نزال نستمرئ الثنائيات المطلقة فيما نصدره من أحكام. فكما كنا، بالأمس القريب، نصنف الناس في «قطري» يكره الوحدة العربية و«قومي عربي» لا يتردد في استرخاص النفيس من أجل تحقيقها وكنا، أو كان البعض منا، يرى في الليبرالية خصما للشعوب ويرى في التعددية السياسية خدعة إمبريالية، فإن الكثير منا اليوم يجنح إلى الأخذ بالثنائية التي تقضي بتقسيم العالم الفسيح إلى فسطاطين: فسطاط الكفر من جانب، وفسطاط الإيمان من جانب آخر.