في شأن الذي جرى في تونس؟!

TT

ليس سهلا أن نفهم ما الذي جرى في تونس التي كانت حتى وقت قريب يوجد فيها «رجل قوي» وحقق «معجزة اقتصادية». ولكن كونفوشيوس يعطينا مفتاح الموقف وهو يعظ تلميذه تسو كونغ قائلا إن هناك ثلاثة أشياء تحتاجها الحكومة: السلاح، والطعام، والثقة. فإذا لم تستطع أن تحتفظ بها جميعا، فعليها أن تتخلى أولا عن السلاح ثم عن الطعام ثانيا. أما الثقة فعليها أن تكافح من أجلها حتى النهاية. فبغير الثقة لا يمكنها البقاء.

وربما كان ذلك ما جرى لزين العابدين بن علي الذي رفض جيشه إطلاق الرصاص على الناس - ولن يكون ذلك تخليا بل فرضا على قيادة عسكرية رشيدة - ثم تخلى عن الطعام عندما جاءت الأزمة الاقتصادية لكي تهز أركان المعجزة، بينما لم يكن الحاصلون على الثروة على استعداد للتخلي عن بعض منها. ولكن مفتاح الانهيار كان في الحقيقة عندما ضاعت «الثقة» في النظام وفي بن علي شخصيا الذي بدا في النهاية وكأنه لا يعرف شيئا عما يجري في البلاد.

الأمر كله يعود بنا مرة أخرى إلى عالم السياسة الأميركي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، الذي عرف في بلادنا بكتابه ومقولته عن «نهاية التاريخ»، ولكن الحقيقة هي أن واحدا من أبرز مؤلفاته هو «الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار»، الذي نشر ضمن مطبوعات مؤسسة الصحافة الحرة بالولايات المتحدة منذ عقود، وأشار فيه إلى أن الثقة (Trust) هي كلمة «السر» في انتقال المجتمعات من حال إلى حال وتطور الدول من وضعية إلى وضعية مغايرة، بحيث تعبر عن المستويات التنموية والخصائص الثقافية والتحولات نحو الديمقراطية في مجتمع أو دولة ما، ويطلق على هذه المؤشرات إجمالا «رأس المال الاجتماعي» (social capital). ويعني هذا المفهوم مكونات رأس المال البشري التي تسمح لأعضاء مجتمع ما بالتعامل المشترك في ظل منظومة أخلاقية قوامها الثقة المتبادلة.

فالثقة لها أثرها الإيجابي في تحقيق النمو والازدهار في المجتمعات، كما يشير فوكوياما، وتمثل - أي الثقة - قوة أساسية للثقافة في خلق مجتمع اقتصادي وسياسي متماسك ومتجانس، وهو ما يمكن ملاحظته بمقارنة حالات المجتمعات ذات الثقة المتدنية بنظيراتها ذات الثقة المرتفعة. بعبارة أخرى، إن قدرة المجتمع على التعاون وتعزيز جوانب الثقة في ما بين أفراده من ناحية، والثقة في ما بين الفرد والحكومة، تعزز الرخاء والازدهار في بلد ما. ووفقا له، فإن المجتمعات تتفاوت في عامل «الثقة» وفي الروابط الاجتماعية، ويبدو أن الاعتماد على دول قوية ومهيمنة في دفع عملية التنمية الاقتصادية، كما حدث في تونس، يؤدي إلى خطر مزدوج: الأول، هو تدهور كفاءة الشركات الحكومية. الثاني، هو ميل الدولة لإضعاف التواصل الاجتماعي والحد من قدرة النقابات المهنية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على العمل مقابل الدولة أو بالمشاركة معها.

فالولايات المتحدة وألمانيا تتمتعان برأسمال اجتماعي كثيف والميل المجتمعي للعمل معا، بحيث صارتا دولتين تتمتعان بثقة مرتفعة، مقارنة بدول ذات ثقة منخفضة مثل إيطاليا وفرنسا، على حد قوله، وهو ما يفسر أن إيطاليا وفرنسا لا تملكان قوة اقتصاد غير حكومي وشركات كبرى مثل ألمانيا والولايات المتحدة، ويعود ذلك إلى تفاوت قدرة مجتمعيهما على بناء صلات وتعاون اجتماعي قادر على تكوين رأسمال اجتماعي تضامني بصورة تمثل أرضا ملائمة لقيام نشاط اقتصادي متعدد يؤدي إلى تكوين مؤسسات كبرى ومشاريع تجارية وصناعية.

وتشير وجهة نظر فوكوياما إلى أنه أمام المجتمعات في حال غياب الثقة أن تعوض ذلك باتباع سياستين: الأولى، هي تدخل أكبر للدولة في الحياة الاقتصادية. الثانية، هي إقامة شركات كبيرة بمساعدة الاستثمار الخارجي. وهما سياستان تنطويان على مثالب كثيرة، منها أولا أن الدولة هي في معظم الحالات رب عمل سيئ وتفتقر إدارته للمؤسسات إلى المرونة والديناميكية والحافز على التطور. فضلا عن عبء الإدارة البيروقراطية وتدخل الجهات الحكومية وسوء التخطيط والتنفيذ والفساد. وثانيا أن الاستثمار الخارجي قلق بطبيعته ولا يستطيع التكيف على الدوام مع بيئة اقتصادية وسياسية غير مستقرة، وهو ما يتم التعبير عنه بمقولة «رأس المال جبان». مع ذلك، فإن السياستين السابقتين تنفذان على نطاق واسع وتشهدان نجاحا أو فشلا متفاوتا على مستوى العالم.

إن هذا التصور العام لفوكوياما يعبر عن تنامي الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والثقافية للتنمية الاقتصادية، بعد أن كانت النظريات الاقتصادية الغربية تضع معايير تقدم وتخلف المجتمعات البشرية، متجاهلة القيم الحاكمة للسياق الاجتماعي الذي تجري فيه عملية التنمية الاقتصادية. فالنظم السياسية والاقتصادية لا تعمل ولا تنجح إلا في مجتمع متماسك. ومن هنا، فإن رأس المال الاجتماعي الذي عماده «الثقة» هو«مجموعة القيم والأخلاق الاجتماعية التي تسهل عمليات التفاعل الاقتصادي والسياسي وتشكل البنية الأساسية للعلاقات الاقتصادية والسياسية، وتتجسد تلك القيم في هياكل وبنى اجتماعية تدعم أعضاءها وتحقق مصالحهم وتعضد تماسكهم». ووفقا له، فإن رأس المال الاجتماعي يسهل من تبادل العلاقات والسلع، ويقوي الثقة في عمليات ومؤسسات التبادل الاقتصادي ويزيد من كفاءتها وسرعتها. كما أنه يخلق علاقة قوية بين الدولة والمجتمع تسمح بخلق قنوات مؤسسية لمناقشة الأهداف والسياسات التنموية.

هنا، على وجه التحديد، يمكن فهم الذي جرى في تونس رغم ما بدا عليها خلال السنوات الماضية من مظاهر براقة للتقدم والتغيير الاقتصادي الذي حدث في معظمه من أعلى؛ حيث توجد سلطة ذات قبضة حديدية. وكانت النتيجة أن التراكم الاقتصادي افتقر إلى رأس المال الاجتماعي الذي يستند إليه؛ وهي نقطة يفتقر إليها ليس فقط تونس ولكن العديد من البلدان العربية، وهو الذي يعطي ميزة نسبية لعدد من الدول العربية الأخرى التي لديها رأسمال اجتماعي يكفي للحفاظ على النظام السياسي. فمن دون مجتمع مدني قوي، ومجتمع سياسي فاعل، وتحركات بنائية على المستوى المحلي، وبالطبع دون حريات سياسية وإعلامية فإن البناء الاقتصادي كله يكون واقعا على أسس ورقية، بل إن «السلاح» كما قال كونفوشيوس لن يكون مستعدا للدفاع عنه؛ ولا الطعام سيكون متاحا ساعة وجود عوامل خارجية تهز أركان النمو الاقتصادي، وعوامل داخلية لا تجعل النخبة الحاكمة على استعداد للتخلي عن فسادها.

ولكن المعضلة الأكبر مع غياب رأس المال الاجتماعي الكافي للتنمية أنها لا تخرب النظام السياسي القائم فقط، وتعمل على إسقاطه، ولكنها تفعل ذلك في المعارضة أيضا التي يعلو صوتها فجأة محاولة وراثة العهد «البائد»، بينما لا تستند إلى أسس فكرية أو اجتماعية تكفي لإدارة الدولة وفق نظام مختلف. ومن هنا تدخل الدولة في حلقات جهنمية من العنف المادي أو السياسي أو كليهما معا. إن الامتحان التونسي لا يزال جاريا، وربما شاهدنا قمة جبل الثلج، أما بقيته فلا تزال تنتظر لحظة الصدام الكبير.