أوباما هو الخاسر من التسريبات

TT

فضائية «الجزيرة» القطرية نشرت «وثائق» - وضعتها بين قوسي التعريف لنسبة التسمية للموقع وليس لكاتب السطور - ليست أوراقا رسمية من جهات حكومية (من أي دولة) تحت يافطة «وثائق مفاوضات السلام الفلسطينية». وعملا بالمبدأ المصري الكلاسيكي «ما حدش أحسن من حد» نشرت فضائية «العربية»، على موقعها «محاضر» جلسات محادثات السلام الفلسطينية - الإسرائيلية.

فور اطلاعي على «المحاضر» استرجعت القاعدة اللاتينية cui bono «من المستفيد»، والأرجح أن مصادر «العربية» كانت الفلسطينيين أنفسهم (أصدرت منظمة فتح تعليمات مشددة لجميع الفلسطينيين بمقاطعة «الجزيرة» القطرية وعدم التعامل معها). وهي تختلف عما سمته «الجزيرة» القطرية وشريكتها في النشر «الغارديان» اليسارية «وثائق»، لأنها منتقيات من memoranda جمع اللاتينية memorandum أي مذكرة، ملاحظات موجهة من شخص إلى آخر (أو أكثر).

النبرة العالية للافتة الجزيراوية - الغارديانوية «بتقديم السلطة التنازلات مفرطة في الحقوق الفلسطينية»، لا تنسحب على واقع المذكرات المتبادلة، سواء بين الفلسطينيين أنفسهم، أو مع نظرائهم الإسرائيليين.

يمكن أن يطلق على هذا النوع «وثائق» فقط في حالتين لا ثالثة لهما.

الأولى إذا بحث المؤرخون مستقبلا، ورجعوا إليها كمصدر إضافي لتدعيم، أو مناقضة معلومات من مصادر أخرى، أو للوقوف على اتجاهات تفكير المعسكر الفلسطيني، خاصة بعد غياب الأشخاص أنفسهم عن الساحة، شريطة التأكد التام من هوية كاتب المذكرة، ووضعها في السياق التاريخي.

الحالة الثانية، معاصرة، صحافية، عندما تناقض الموقف المعلن لمسؤول، فتصبح (المذكرات memoranda لا يشترط التوقيع عليها كالخطابات) وثيقة دفاع بعد ثبوت صدورها بعلمه (إذا شكا للقضاء ما نشرته صحيفة) أو حبلا صحافيا لتعليقه متدليا من لسانه بتهمة خداع الناخب.

ما هو المعروض إذن في فترينتي «الجزيرة» و«الغارديان»؟

تبادل أفكار، وعروض؛ كلها تقريبا معروفة مسبقا لمتابعي سير العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية ما بعد أوسلو. ليست جزءا من محاضر اجتماعات رسمية، أو مسودة اتفاقيات عرضت على المتفاوضين من الجانبين، ولا يمكن لعاقل استخدام لفظة «وثائق» لوصفها، وذلك لوقوعها خارج السياقين المذكورين (تاريخيا أو صحافيا)؛ خاصة بتقديمها، بغرض ترويج البضاعة الصحافية، كتنازلات قدمها المفاوضون بأكثر مما يتحمله المواطن الفلسطيني (رغم أنه لم يصوت بقبول أو رفض مسودة عرضت عليه).

وليس بين المذكرات ورقة واحدة ضمن اتفاق وقع عليه الجانبان، أو مسودة اتفاق، أو حتى خطة عمل مشتركة أعلنها الجانبان للتفاوض عليها.

الملاحظ أنه سواء في المذكرات (التي لا ينسحب عليها تعريف «وثائق» تحت اليافطة الصحافية التي قدمتها) أو محاضر الجلسات التي نشرها موقع «العربية»، ليس هناك جديد لا يعرفه متابعو المسلسل التراجيدي الهزلي للمحادثات الفلسطينية - الإسرائيلية.

الواقعية التي تتعامل بها السلطة الفلسطينية الحالية مع المعطيات المتاحة؛ هي محصلة تاريخ مأساوي من حروب بدأتها حكومات عربية وليس الفلسطينيون (باستثناء صواريخ حماس التي جاء رد إسرائيل عليها، ديسمبر (كانون الأول) 2008، مبالغا فيه وغير متناسب مع حجم خسائر الصواريخ). فتاريخيا وحتى أوسلو، كانت فلسطين دائما أرضا جغرافية ولم توجد أبدا دولة اسمها فلسطين لها حكومة كانت مسؤولة يوما عن حرب أو سلام. وإنما حكومات أخرى مسؤولة عن رفض قرارات الأمم المتحدة. محصلة بدأت بضياع فرصة ظهور دولة فلسطينية مستقلة عام 1947، وانتهت بفقدان الفلسطينيين المزيد من الأرض وتضاعف عدد اللاجئين حتى قبل أن تطرح فكرة الدولة.

وحسب مسؤول فلسطيني شارك في المفاوضات، فإنه سواء كان الحل في الدولتين، أو الدولة الواحدة، أو الكونفدرالية مع إسرائيل أو الأردن أو ثلاثية، فإن هناك واقعا تحتمه عوامل الاقتصاد والجغرافيا - بمواردها - والحيوية الديموغرافية؛ واقع تشابك المصالح والتعاملات والأسواق والخدمات الفلسطينية - الإسرائيلية بشكل تصبح معه مسألة الحدود الأرضية والسيادة الرسمية مسألة رمزية وشكليات؛ قد تفيد عمليا في تحديد ميزانية البلدية، فلسطينية أو إسرائيلية، للإنفاق على المواصلات والطرق والمرافق التي يستخدمها الفلسطينيون والإسرائيليون معا.

هذه الواقعية (التي عكستها طريقة التفكير في المذكرات) لها بعدان: اقتصادي مدني عملي، وآخر سياسي استراتيجي تفاوضي.

الأول مثّله توفيق الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في اختيار وزير المالية السابق سلام فياض، التكنوقراط، النظيف اليدين، الطيب السمعة، الاقتصادي البارع، رئيسا للوزراء. المنصب في الأوتوقراطيات العربية لا يحظى كثيرا باهتمام الجماهير (لضحالة مستوى غالبية الصحافيين) التي تركز على شخصية الزعيم، الرئيس، القائد (وعباس تناقصت شعبيته لحد خشيته الدعوة لانتخابات قد تأتي لسفينته برياح غزاوية). استغل فياض بُعد أضواء الصحافة عن المنصب بواقعية بارعة، مفضلا التركيز على التنمية والإصلاحات الاقتصادية، والمشاريع، وزيادة الدعم العالمي لرفع مستوى المعيشة (وهو بدوره سيؤدي إلى رفع أجور عشرات الآلاف من الفلسطينيين في سوق العمالة الأكبر المستهدفة في إسرائيل)؛ بينما ترك قضايا كاستعادة الأراضي للزعماء، حيث تضمنتها شعاراتهم المنطلقة نحو الفضائيات والصفحات الأولى، أو للتفاوض على إنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات. المستوطنات، مثلما أخبرني مرة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، أنها «وسيلة من أجل غاية»، إذا أمكن تحقيقها بشكل أفضل وأقل تكلفة مادية وسياسية، فلتذهب المستوطنات، وذلك ردا على سؤالي عن استعداده لتفكيك المستوطنات مقابل سلام دائم مثلما فعل عند الانسحاب من سيناء وغزة؟.

البعد الثاني الاستراتيجي أنه في مفاوضات الزعماء - كياسر عرفات في كامب ديفيد 2000، ثم يناير (كانون الثاني) 2001، ثم عباس مع إيهود أولمرت 2008 - رفض الفلسطينيون عروضا أفضل مما يعرضون الآن (حسب المذكرات)، والفكرة إذن إظهار إسرائيل «كرافض للسلام» وليس الفلسطينيون: «تريدون الأمن بشروطكم؟.. أوكي.. مستعدون، فلنقايض الأراضي؛ أنهوا الاحتلال وسنقبل بدولة منقوصة السيادة».

المفارقة أن الخاسر الأول من هذه التسريبات، هو إدارة الرئيس باراك أوباما، مقابل حماس، التي ستجني ثمار الغوغائية التي تبثها الفضائيات في شارع ضللته الصحافة.

السبب؟

ما تسرّب من أفكار حول القدس الشرقية.

تبادل مناطق مكتظة باليهود في القدس الشرقية بأخرى وراء حدود 1948، تثيرها المذكرات «كأفكار فلسطينية» أثناء المفاوضات؛ فلماذا لم تضغط إدارة أوباما بشأن القدس الشرقية (وكانت جزءا من عرض أولمرت في مفاوضات 2008) بدلا من المستوطنات، مما أدى إلى تراجع أوباما أمام بنيامين نتنياهو (تنازل في المستوطنات يسقط حكومته)؟

ربما «استوطنت» مهارة «إدارة الصراع»، بدلا من فكرة الحل في الذهنية الأميركية؛ وقد يكون إتقان أوباما البلاغة الكلامية، مثيرا إعجاب العرب، جعل الدور «يستوطن» عقله كممثل يعيش الشخصية.

وربما تنيرنا تسريبات قادمة، ليست مذكرات أو محاضر، بتفسير جديد علينا.