بين وهم العالم الافتراضي وجحيم الواقع الأرضي

TT

لا يجد علم الاجتماع السياسي، فيما أعلم، نعتا يصف به ما يحدث الآن في كل مصر وتونس (نعم، لا تزال تونس في عنفوان الفعل وإن بدا خفوت وهدوء أحيانا). هل هي ثورة تسعى إلى قلب الأوضاع رأسا على عقب وتنشد البدء الجديد مطلقا؟ ليس تماما، فليس هناك - فيما نرى ونسمع - فكر متكامل ولا نظرية في السلوك واضحة المعالم. هل هي إذن انتفاضة شعبية يعي الشعب ذاته من خلالها، يعي نفسه في الميدان كشعب؟ إنها، ولا شك، ذلك ولكنها أكثر من ذلك وأكبر. إنه غضب مَاحِقٌ استحال سخطا عارما وعنفا رمزيا شاملا. تتعدد النعوت ولكن الأكيد أنه ليس في علم الاجتماع السياسي ولا في مقدور علم النفس الاجتماعي، بل وليس يملك علم السياسة أن يقول فيه برأي واضح. أول صفات السياسة القدرة على التوقع انطلاقا من رسم سيناريهات متعددة ولكن الواقع، في إيقاع الأحداث السريع وفي لعبة الشد والجذب بين سلطة فقدت الشرعية بموجب الأبجديات الأولى لعلم السياسة وفلسفة التاريخ: القدرة على إحقاق الأمن الشامل في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة. هذا الشرط يتهاوى في كل يوم، في أماكن شتى من جمهورية مصر الفسيحة وليس في المدن الكبرى وحدها.

نحن، على كل حال، أمام جدة تكاد تكون تامة، ونحن شهود على ميلاد معطيات جديدة إذا كان في الإمكان القول إن توقعها، في جوانب منها، كان ممكنا فإن من الأكيد أن الصورة التي يفرغ فيها ما يجري الآن تدِقّ عن الفهم وتعلو على التحليل المعتاد في العلوم الإنسانية. إنها جدة كاملة نعيشها في الزمن الفعلي - كما يقال في لغة الإعلام - لحظة وقوعها بالصورة والصوت الواضحين. ما أملك أن أقوله هو أن هذا الجديد الذي لست أجد له اسما تتداخل فيه أطراف ثلاثة تتبادل الفعل والانفعال فيما بينها: الشباب، التواصل، العفوية.

أما الشباب (الطرف الأول) فهم هذه الكتلة البشرية الهائلة التي أول ما يجب الاعتراف به في حقها أننا لم نكن نقدر ألمها، ثم قلقها، فغضبها حق قدره ومن ثم فإننا نفاجَأ به، نفاجأ بما يصنع. هذه الشبيبة العربية ولدت، في الأغلب الأعم، في ثمانينات القرن الماضي أو بعدها بقليل وهي تشكل (يا للمفاجأة، فكأننا نكتشف ذلك للمرة الأولى، ما يربو في بعض دولنا على 60 في المائة من الساكنة). أغلب هؤلاء الشباب متعلمون، وبعضهم يحمل شهادات جامعية وهم عاطلون عن العمل، بل ربما وجب الاعتراف كذلك بأنهم - لأسباب كثيرة، وفي جوانب شتى - محرومون من الأمل أيضا. هم يحكمون بأنهم لا يمتون إلى «العالم الواقعي» بكبير صلة، ولذلك فهم يفرون إلى «العالم الافتراضي».

وأما الطرف الثاني فهو مجموع تقنيات التواصل التي نقول - في لغة عصر النهضة - إن «المدنية الحديثة» قد أفرزتها وحكمت بتعميمها على بلاد العالم، لا يكاد يكون هناك تمييز في الوصول إليها بين الكبير والصغير، بين الغني والفقير. هي أداة في خدمة التجارة والمال والاقتصاد والأمن والإدارة، ولكنها أدوات في خدمة أمور أخرى عديدة ليست شريفة دوما (في إمكانها، بالدليل المستمد من الميدان وبشهادة نشرات الأخبار والصور المبثوثة في العالم أجمع، أن تكون في خدمة الإرهاب مثلا). والتاريخ البشري يعلمنا أن هنالك جدلية قوية بين التقنية وبين الوعي، مثلما يعلمنا أن هنالك علاقة بين إحداث نقلة كيفية بين بعض القوانين العامة وبين الحرية. لعلي أكتفي بمثال هولندا في القرن السابع عشر: كانت البلد، كما نعلم، ملجأ وجد فيه ديكارت، القادم من جحيم التفتيش وسطوة رجال الكنيسة في فرنسا، وجون لوك، الهارب من نار الحرب الأهلية في بريطانيا، وغيرها وجدوا فيهما حماية مصدرها حرية الصحافة والمجاهرة بالرأي التي استدعاها تطور التجارة والتنافس فيها. وهذا الشباب الغاضب (= الطرف الأول) وجد في التويتر، والفيس بوك وغيرهما، فضلا عن الهاتف الجوال والكاميرا الرقمية الصغيرة الحجم الرخيصة الثمن.. ملجأ وملاذا. تعذر «التواصل» في العالم الواقعي دفع بالشباب إلى «العالم الافتراضي» وهم في الإبحار فيهم ربابنة مهرة، لا بل إنهم قادرون على الابتكار والتطوير.

وأما الطرف الثالث (العفوية أو التلقائية، بمعنى انعدام التأطير السياسي والإعداد النظري) فهم، متى أمعنا النظر، ثمرة التفاعل بين الشباب والتواصل في «العالم الافتراضي» من جهة وهو، من جهة ثانية، وهذا مكمن الخطورة العظمى، النتيجة المباشرة للفراغ السياسي. لا شيء يقتل الشعوب وينذر بكل الويلات والأخطار مثل الفراغ السياسي. ليس هناك أدعى إلى الحفاظ على الدولة قوية مهابَة، اقتناعا لا خوفا مرضيا، وعلى المجتمع سليما مثل الوعي السياسي السليم وقد أفرغ في القنوات السليمة والطبيعية التي يستدعيها التطور الإنساني في الفراغ السياسي يرتع التطرف والغلو في كافة أشكالها وتظهر النزعات الهدامة التي تستهدف إزالة كل من الدولة والمجتمع بين الفوضى وانعدام الأمن وانسداد الرؤية بين الفراغ السياسي صلة ومودة وتبادل أدوار. أما المسؤولية في الفراغ السياسي فترجع إلى الحكام، في النصيب الأوفر منها، ولكنها ترجع، أحببنا أم كرهنا، إلى ضعف ومرض المجتمع السياسي وهذا الأخير جماع الأحزاب والتنظيمات الشرعية المدنية.

لا غرابة إذن أن حادثا، يكاد يكون عرضيا، يكفي لإلهاب المشاعر وإشعال الفتيل. العفوية وجنود الظلام التي تعشش فيها - في دعم غير مقصود من الاستبداد السياسي وإسكات الأصوات والتضييق عليها وتزييف الممارسة السياسية برمتها - وقود لكل الشرور الممكنة. وفي «العالم الافتراضي» (وقد غدا التواصل ممكنا في مقابل انعدامه في العالم الواقعي أو الأرضي) يصنع وعي سياسي يغلب فيه الحلم على الفكر، والغضب على التفكير الهادئ، والمرارة القاتلة على المشاركة والأمل.

هذا «النزول إلى الشارع» في عفوية (كذلك نقول في عجزنا عن الفهم) هو إعلان لمغادرة «العالم الافتراضي» ومحاولة نقله إلى العالم الأرضي. وإذ يكون الأمر كذلك فكل شيء يغدو ممكنا والمطلب يغدو واحدا راديكاليا. كذلك رأينا، في تونس ومصر، تحولا سريعا مدَوِّخا من مطالب اجتماعية إلى مطلب سياسي راديكالي، مطلب يغدو الاعتقاد أنه مفتاح السعادة.

نعم، لابد من محاسبة الذات وليس البتة صحيحا القول إنه لا وقت لذلك الآن. لابد للعقلاء من يقظة أو نهضة (أو هما معا). لماذا كان الحوار غائبا أو معطلا؟ لم الإصرار على تغليب صوت واحد بكافة أشكال القهر على الأصوات الأخرى؟ في الإصرار على تغليب وتسويد الحزب الواحد والرأي الأوحد (بقوة التزييف والمغالطة) ضرب لصرح ينشغل الكل في بنائه وجوبا، صرح يدعى الديمقراطية. ليست هناك وصفة سحرية ولا قاعدة عامة، فلكل بلد معطياته ولكل وجود مكوناته ولكن الغاية واحدة.

يقال إن الطبيعة تخشى الفراغ، والسياسة كذلك. لكن يقال أيضا: إن السياسة لا تقبل أن تكون عرجاء تسير برجل واحدة. المعارضة والقدرة على الاعتراض هي الرجل التي يكون أول تفكير الحاكم المستبد هو المسارعة إلى بترها. إذ يفعل ذلك فهو يوقع عقد ميلاد كل الشرور والآثام.