المشهد المصري ومآلات التغيير

TT

لقد كانت أحداث تونس من الضخامة، بحيـث كان يجب على المـراقبين - وبخاصة إذا كانوا عربا - أن يتوقعوا مثائل لها أو أعظم في بلدان عربية أخرى. بيد أنّ ذلك لم يحدثْ لأسباب مختلفة، أهمّها ما ذهب إليه معظَم المراقبين من أنّ الظروف بتونس مختلفة عن البلدان العربية الأخرى القريبة والبعيدة! ولا شكَّ أنّ هناك اختلافات في الأوضاع الاقتصادية والثقافية، واختلافات أخرى في علائق السلطة وقواها الأمنية بالناس، واختلافات في علائق الناس بالجيش في البلد المعني، وفي الوقت نفسِه علاقات المؤسسة العسكرية بالنظام من جهة، وبالجهات الإقليمية والدولية من جهة ثانية.

على أنّ هذه التباينات لا ينبغي أن تلفت الانتباه عن الجوامع والمشتركات بين سائر البلدان العربية خارج دول الخليج. والمشتركات هي: خضوع هذه البلدان جميعا للعولمة الاقتصادية، وما أدّت إليه من فشل تنموي أو تنمية وحيدة الجانب، مع ما خلّفه ذلك من زيادة معدَّلات الفقر والبطالة، دونما اهتمام حقيقيّ بمتابعة برامج التصحيح والعناية بشؤون الفقر والتعليم والتدريب خلال مراحل التحولات الهيكلية في الاقتصاد. وحالة تونس لهذه الناحية أفضل من حالة مصر، لكنّ عناصر الخلل الرئيسية لهذه الجهة موجودةٌ ليس في هذين البلدين فقط؛ بل وفي ثمانية بلدان عربية أخرى. والطريف والمؤْسي أنّ الوضع في «الجماهيرية الليبية العظمى» لا يقلّ سوءا عنه في تونس ومصر وسورية رغم أنها بلدٌ بترولي. ويزيد من التوتّر في هذا المجال، أنّ الذين ينوءون تحت أعباء البطالة والحاجة، هم في غالبيتهم من الشباب، بسبب ارتفاع نسبة الشباب (تحت الثلاثين) بين السكان في سائر البلاد العربية.

أمّا العامل الثاني فهو الافتقار الهائل المنظم ذات البنى والمؤسَّسات، والتي يستطيع المواطن المحتاج أو المتظلّم اللجوء إليها. ونحن هنا لا نتحدث بعد عن «دولة القانون»، وعن «حكم القانون»؛ بل عن المنافذ التي يستطيع المواطن العاديّ اللجوء إليها من أجل العمل والصحة والنقل والتعليم وسدّ الحاجات الضرورية. ولا يعني ذلك أنّ هذه المرافق منعدمة؛ بل إنّ التوسيع والتحديث ما حصلا بالأقدار الضرورية في العقود الثلاثة الأخيرة، رغم زيادة عدد السكّان، وتغيّر النظام الاقتصادي في أكثر تلك البلدان.

والعامل الثالث المشترك يتمثّل في الافتقار إلى تداول السلطة وحكم القانون والحريات الأساسية. أمّا فيما يتصل بالأمرين الأخيرين (القانون، والحريات) فالوضْع في مصر أفضل إلى حد ما من أنظمة المشرق والمغرب. إذ أن هناك مؤسسة قضائية قوية، كما أنّ هناك صحافة حرّة أو قسما منها. إنما تتساوى كلّ الأنظمة في انعدام تداول السلطة، والاتجاه للتوريث، والابتعاد – رغم التوجهات العالمية المناقِضة- عن حكم القانون، وكتْم الحريات. فليس في سورية وليبيا وتونس والسودان انتخابات على وجه التقريب، ومنذ عقود. أمّا في مصر والأردنّ؛ فقد مالت السلطات قبل أشْهر إلى احتكار الانتخابات ضمن الموالين للسلطة أو للحزب الحاكم. وهذا فضلا عن انتفاء انتخابات الرئاسة الحرة، والاتجاه الدائم لمنع التداول على السلطة من طريق التجديد والتمديد أو توريث الأبناء والأقارب، والذين يقومون بذلك في حيوات آبائهم أو بعد وفاتهم. وأنظمةٌ مثل هذه لا تتعرض للمساءلة والمحاسبة ولا تفكّر في ذلك، يتفاقم فيها الفساد بالطبع، وتسود فيها الرشوة أو ما يعرف بصرف النفوذ. وفضلا عن أنّ ذلك يثير حفائظ سائر المواطنين وبخاصة الشباب؛ فإنّ هذا الظواهر تخضع للفعل وردّ الفعل، فتحدث التمردات الصغيرة أو الكبيرة، وتسود أجواء من القلق وعدم الاستقرار؛ في حين تمعن السلطات الخالدة في الضغط الأمني، دون أن تترك منفذا للتنفيس أو التفكير في الخيارات السلمية الأخرى للتغيير.

أمّا العامل الرابع فيتمثل في مخالفة الأنظمة العربية للاتجاهات العالمية السائدة بعد انقضاء الحرب الباردة. فبدلا من أن تتجه الأنظمة لاستحداث عقد جديد مع شعوبها - شأن ما حدث في أميركا اللاتينية مثلا - اعتمدت في استمرارها على الترتيبات التي أمكنها بلوغها مع الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات.

وقد خدمت الولايات المتحدة سائر تلك الأنظمة بالفعل، إمّا بنصرتها ودعمها والوقوف إلى جانبها، أو بالسكوت عنها وعليها حتّى لا يؤثّر الإسلاميون المتشددون والمعتدلون على استقرارها المفروض. فالمعروف أنّ الولايات المتحدة في عقدي الهيمنة، أرادت فرض الديمقراطية بالغزو العسكري أو هكذا ادّعت. فنهض في وجهها الإسلاميون المتطرفون (القاعدة وأشباهها)، والمعتدلون (الإخوان المسلمون ومتفرعاتهم). ودخلت إيران على الخطوط ذاتها التي دخل عليها الأميركيون والإسلاميون. فمن جهة نسّقت مع الأميركيين في العراق وأفغانستان، ومن جهة أخرى «حالفت» الإسلاميين الذين نهضوا في وجه الولايات المتحدة، وفي وجه أنظمتهم. وقد انحفظت بذلك الأنظمة لأنّ الولايات المتحدة خشيت أن يسود الإسلاميون من خلال الديمقراطية الانتخابية شأن ما حدث بغزّة. وقد ازدادت ضعفا لابتعادها أكثر عن الجمهور، ولاستنزافها لصالح إيران التي بدأت بإدارة الإسلاميين الشيعة والسنة، واستخدامهم في الوقت نفسِه في المساومات والمبادلات مع الولايات المتحدة شأن ما حدث بالعراق، ويوشك أن يحدثَ بأفغانستان.

إنّ الموجة الجديدة للديمقراطية بحسب عهد أوباما، لا تعتمد «الفوضى الخلاّقة»؛ بل تعتمد الإبقاء على النظام من خلال الجيش ووحدته، وتجنّبه قمع الناس، والتغيير الديمقراطي من داخل النظام، وبواسطة القوى الجديدة للشباب، فيأتي بذلك التغيير من خلال قوى المجتمع المدني، وليس بواسطة الإسلاميين الذين تحملوا عبء المعارضة والتمردات لأكثر من ثلاثة عقود.

وها قد حدث ذلك بتونس، وهو ما يحدث بمصر الآن. ففي حين لم تظهر حركة «النهضة» أصلا في اضطرابات تونس، ظهر الإخوان المسلمون بشكل متواضع في الثوران المدني المصري. أمّا الجيش فكان موقفه واحدا في البلدين. ففي تونس رفض الجيش التدخل ضد المتظاهرين، وأعلن عن حمايته للثورة، وأسهم في إخراج الرئيس بن علي. وفي مصر ما نزل الجيش إلى الشارع إلاّ بعد تعيين اللواء عمر سليمان نائبا لرئيس الجمهورية، والفريق أحمد شفيق رئيسا للحكومة الجديدة. ورغم ذلك ما أعلن الجيش عن رأي له في استمرار الرئيس مبارك لنهاية مدته (بعد ستة أشهر) أم لا، كما لم يعلن شيئا عن رأيه في الحكومة المشكَّلة من الرئيس رغم أنّ رئيسها كان ضابطا كبيرا فيه.

وقد لا تكون هذه التفاصيل الكثيرة مهمة، وسط تسارع التطورات. لكنّ التغيير في العالم العربي، تأخر عقدين على الأقلّ، حفلت بأحداث تمردات الإسلاميين على الأنظمة، والهجمة الأميركية على منطقة المشرق العربي في الحرب على الإرهاب. أمّا الآن فإنّ التغيير قد بدأ، وسواءٌ أَبلغَ المتظاهرون بساحة التحرير مليونا أم لا. فالمشكلات قد تفاقمت في العالم العربي مشرقا ومغربا، وضعف الأنظمة عن حماية المصالح الوطنية والقومية، وعن تجديد شرعيتها؛ شرّع للأميركيين وللإيرانيين ولغيرهم التدخّل إمّا بحجة مكافحة الإرهاب، وإمّا بحجة مكافحة التدخل الأجنبي، وإمّا بحجة مصارعة إسرائيل!

إنّ المطلب والأولوية الآن هو للديمقراطية، والتحول الحاصل تحولٌ سلميٌّ يهدف للمزيد من المشاركة. وما عاد أحدٌ يستطيع الوقوف في وجهه ولو زعم أنه هو قائمٌ وسيقوم بالإصلاح، فالجمهور الشابّ يريد مباشرة تحقيق حرياته ومصالحه بنفسه؛ «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».