الله يستر من (الخضة) الثالثة

TT

عندما وصلت إلى مطار القاهرة، في 25 يناير (كانون الثاني) على أمل حضور معرض الكتاب الذي سوف يفتتح 26 يناير، وحصل ما حصل من اعتصامات ومظاهرات ما زالت تتفاعل، وليس موضوعي اليوم هو الحديث عنها وإنما أتركها لوقت آخر، والآن أعود وأقول وبحكم أنني متعب وكذلك قرفان فقد طلبت من سائق التاكسي أن يوصلني مع الشكر إلى أقرب أوتيل ممكن، فإذا به يوصلني إلى (هليوبولس)، والواقع أن الأوتيل هادئ وما (اشبوشي)، مثلما يقول إخواننا أهل سورية.

وما صدقت أن أدخل غرفتي حتى فتحت شنطتي وأخرجت منها مخدتي التي تلازمني أينما ذهبت، احتضنتها بشغف وهي كذلك احتضنتني ولكن بلؤم، وغرقت معها في نوم عميق دون أي أحلام تذكر، وهذا أحلى ما في الموضوع.

وفي الصباح طلبت (البركفست) مع الجرائد، وبينما كنت أتسمم وأتصفح الجريدة (انخضيت خضتين سودانيتين). وللمعلومية فالخضة السودانية ليست كأي خضة في العالم، لأنها دائما تكون من العيار الثقيل الذي يفجع.

(الخضة) الأولى هي عبارة عن رسالة وصلتني على تليفوني الجوال قبل قليل وجاء فيها: عش سودانك على جوالك، يمكنك الآن متابعة ما يدور في السودان أولا بأول، وإن أردت وسائط سودانية فنحن جاهزون.

مسحت الرسالة وأنا أقول بيني وبين نفسي: يا له من صباح مشرق، اللهم اجعله خيرا، ورجعت مرة أخرى لتقليب الجريدة وإذا بي أصعق (بالخضة) الثانية عندما وقعت عيني على مقال عن السودان للأستاذ فؤاد مطر - وهو على فكرة أفهم وأعمق من كتب في الشأن السوداني من دون منازع-، وليسمح لي الأستاذ أن أقتطع من مقاله جزءا من المقدمة، ففيها ما يكفي لمن أراد أن يتدبر. يقول الأستاذ فؤاد: «عندما تزايدت حدة الضجر الشعبي من الرئيس الراحل جعفر نميري قرر أن يعتمد تطبيق الشريعة في السودان خشية أن يسبقه أحد من الذين يسيل لعابهم لامتلاك السلطة.

ولكي لا يترك المجال أمام الناس للافتراض بأن كلامه عن الشريعة هو ونسة لا أكثر، أي كلام للدردشة في مجلس وليس لتعديل دستوري صاعق، فإنه أصدر من الأحكام على سكارى وزُناة، ما تسبب التنفيذ لبعضها بحالات من الهلع في أوساط المجتمع. كما أن مهرجان تحطيم ألوف زجاجات الخمر على ضفة (المقرن) حيث ملتقى النيلين جاء خطوة فولكلورية قوبلت بالعتب على الرئيس من أصدقائه الجنوبيين المتسالم معهم، الذين كانوا يتمنون لو خصهم بهذه الزجاجات بدل تحطيمها تغنيهم عن شراب (الماريسا) الذي يتهته أدمغتهم ويزيدهم ضياعا.

بعد نحو ربع قرن من هذا الذي فعله المشير نميري يأتي نظيره في الجنرالية الفريق أول عمر حسن البشير ليقول في لحظة اتساع حدة الضجر الشعبي من طول بقاء (ثورة الإنقاذ)، متفردة لا تستضيف من يعرض ولا من يطلب شراكة، ما معناه أنه في حال انفصل الجنوب فإنه سيعلن السودان المنزوع جنوبه دولة إسلامية القوانين».

وما أن انتهيت حتى قلت: الله يستر من الخضة الثالثة، وخرجت إلى الشارع فإذا الدنيا مقلوبة.

[email protected]