المهمشون في مصر.. و«الفورة الشبابية»

TT

قبل «الفورة الشبابية» في مصر حسني مبارك يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011 والمتواصلة حتى إشعار آخر، كان بسطاء الناس الذين لم ينعموا بخيرات انفتاح مصر أنور السادات ويشكلون الأكثرية في الـ80 مليون نسمة، يعتمدون القول الشاعري: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل». وكانوا، على الرغم من الشكوى الصامتة، صابرين حامدين شاكرين يحدوهم الأمل بأن الأمور لا بد ستتحسن، عملا بالقول الشاعري أيضا: «يغير الله الحال السيئة إلى الحال الحسنة.. فالأحسن».

ولولا هذه القدرية لدى الأكثرية المصرية لكان في استطاعة فورة يقوم بها المهمشون، أو الذين لخص عميد الأدب العربي طه حسين حالهم - بالعين البصيرة بديلة للعين الضريرة - بالقول إنهم المعذبون في الأرض، أن تقتحم الأبراج التي بدأت تعلو على ضفتي النيل الذي تهدد منسوبه نزعة استهانية مفاجئة من بعض الدول الأفريقية لبناء سدود تؤثر سلبا على الحصة المصرية، كما تلوثه من جانب المصريين أنواع من الملوثات تضيف إلى البلهارسيا أوبئة لا علاج لها. لكن هؤلاء المهمشين الذين يعيشون في مناطق أقل سوءا بكثير من تلك «المستوطنات» الفلسطينية في لبنان والأردن وغزة وغيرها وتسمى تأدبا مخيمات لم يثوروا واكتفوا بالتعبير عن مر الشكوى من هذا العيش الذليل ينقله عنهم برنامج لافت يقدمه الإعلامي عمرو الليثي أسبوعيا من فضائية «دريم».

ولو أن الطبقة الأكثر اكتنازا من رجال الأعمال تفاعلوا مع حالة هؤلاء المهمشين على نحو ما يعرضه البرنامج المشار إليه بالصوت والصورة لكانوا استوعبوا ما معنى خوف الأجيال الشبابية من مستقبل قاتم يجعل أكثرية شعب مصر على درجات متفاوتة من التهميش. ولقد كنت، كإعلامي مخضرم يتابع - وفق متطلبات العمل الصحافي منذ منتصف الستينات - الأحوال المصرية سياسيا ومجتمعيا، أستغرب كيف أن الذين يعيشون بجوار قبور الموتى لا ينتفضون، ربما لأنهم يتفهمون ظروف البلد المتنقل من حرب إلى حرب ولأن الاشتراكية ساترة أوجاع الناس نتيجة أن الفوارق الاجتماعية ليست حادة؛ كون ميسوري الحال يتصرفون بتعقل، إلى أن وصل الحال إلى زمن اكتشفنا فيه أن المسألة أخطر بكثير وأن الخافي هو الأعظم وأن زنار الفقر الذي يطوق مهراجات الانفتاح قد يعصف ذات يوم وبحيث لا يقتصر الأمر على «فورة شبابية» كالتي حدثت وإنما يحدث إعصار اجتماعي يقوض كل شيء. وعندما نرى أنه على مسافة دقائق من قلب العاصمة المصرية هنالك عائلات تعيش طوال السنة داخل قارب لصيد السمك النهري وينام أفراد العائلة الذين هم بين خمسة وعشرة في هذا القارب ويلتحفون جميعا ببطانية، بينما هنالك مهراجات يزدادون اكتنازا ومن دون التبصر بما يمكن أن يحدث، لا نعود نستغرب دوافع الشباب إلى فورة ذات طابع اجتماعي في جوهرها وناشئة عن الخوف من أن يتحكم «إقطاع الانفتاح» بعد حين بالملايين الذين يغادرون بالتدرج موقعهم كطبقة متوسطة في طريقهم إلى مواقع التهميش.

تلك هي حقيقة «الفورة الشبابية» التي غلفت بمطالب ذات طابع سياسي. وحتى لو لم يحدث استئثار واحتكار، بمعنى وضع اليد على الحياة البرلمانية وتأجيل متعمد لتعيين نائب لرئيس الجمهورية وعدم وضوح في مسألة التجديد ولاية سادسة لرئيس الجمهورية يتم خلالها التوريث ما دام البرلمان برلمان الرئيس ومجلس الشورى مجلسه والدستور مفصلا على قياسه، فإن «الفورة» كانت لا بد أن تحدث ويقوم بها الجيل الشاب خشية من المستقبل الذي يتقدم فيه التهميش على الحد الأدنى من العيش المأمون المضمون.

إن كلاما كثيرا يمكن قوله في هذه «الفورة الشبابية» التي رسمت في المشهد التغييري في العالم العربي حقيقة جديدة، هي أن «البلاغ رقم واحد» المدني وبالذات الشبابي والعفوي هو أصدق أنباء من «البلاغ رقم واحد» العسكري بل وحتى من سائر البلاغات وأكثرها فاعلية. فمن كان يتصور دبابات الجيش تحرس، بل وتسهر على طمأنينة وراحة الجمهور الشبابي الذي افتقد الثقة بحكامه فخرج عليهم شاهرا «فيسبوكه» الذي يداوي من غير أن يجرح.

وأضيف إلى ما ذكرنا أعلاه تأملات خمسة، الأول: هو أن الذي صان مكانة الرئيس مبارك هو الشرعية التي على جناحها حكم مصر ثلاثة عقود.

الثاني: هو أن الأبناء أصحاب «الفورة الشبابية» كانوا في حالة تقاطع مع الآباء؛ ذلك أن الأبناء ولدوا وعاشوا في ظل حالة مضطربة اجتماعيا، لكن الآباء عاشوا محنة حالة مضطربة وطنيا ناشئة عن هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967؛ لذا فإنهم يذكرون بالخير أن رئيسهم حسني مبارك منذ عام 1981 كان يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973 أحد نجوم النصر العسكري الذي قلص صدمة الهزيمة. ومثل رجل كهذا يستحق وقفة التفاف حوله من جانب الآباء بدلا من وقفة الالتفاف عليه من جانب الأبناء المنتسبين إلى جيل العولمة ومن أدواتها الـ«فيسبوك» الذي ملأ فراغات عربية على نحو ملء البطون بـ«الهمبرغر» المسرطن.

والتأمل الثالث هو أن الأمر مقبول كحالة احتجاج، لكن في الوقت نفسه أن وراء الحالة ما وراءها. وعندما ينطق آية الله خامنئي لغة عربية، وهو أمر غير مألوف من جانبه، ويدعو من على منبر صلاة الجمعة (4 فبراير / شباط 2011)، في خطبة هي الأولى منذ بضعة أشهر، جيش مصر الذي حمى «الفورة الشبابية» إلى «الالتحاق بالشعب إن شاء الله». ويضيف: «إن الوضع الراهن يتطلب من الأزهر أن يتخذ موقفا بارزا مما يجري في مصر».. واتهم الرئيس المصري بمعاداة الحرية والعمالة وقال بأن «أول بوابة ستغلق بوجهه هي الولايات المتحدة» في حال رحيله.. إنه عندما ينطق لسان خامنئي بالعربية هذا الكلام وغيره من النوعية نفسها ويسبقه في الكلام وزير الخارجية النجادي (صالحي) صاحب الدعوة إلى «شرق أوسط إسلامي» فهذا يعني بداية مواجهة جديدة مع العروبة والعالم العربي، يشارك فيها لغرض آخر وبأسلوب مختلف رجب طيب أردوغان الذي يتطلع إلى هيمنة تركية على العالم العربي المتوعك، وإلا فما معنى الإكثار من النصائح الأردوغانية لمبارك بالانصراف؟

والتأمل الرابع الذي هو امتداد للتأمل السابق هو أن الولايات المتحدة ربما تخطط، بالتناغم مع الاتحاد الأوروبي، لاستيلاد زعامة أصولية سنية تواجه بها الأصولية الشيعية التي تقودها إيران. وهي لهذا الغرض ترى أن تستبدل بحسني مبارك العروبي رئيسا إخوانيا يتشارك مع الرئيس التركي الآتي قريبا (أي أردوغان بعد الرئيس الحالي غل)، وإلا فما معنى الضغوط على مبارك من أجل أن ينصرف؟

التأمل الخامس هو نقيض ما سبقه، وهو أن إدارة الرئيس أوباما، بالتنسيق مع حكومات الاتحاد الأوروبي، تصب الزيت على النار المصرية بهدف الضغط على إسرائيل للقبول بتسوية دائمة تقوم بموجبها الدولة الفلسطينية؛ لأن عودة مصر في النظام الآتي بفعل التغيير، عن معاهدة كامب ديفيد، تعني جمع العرب من أجل مواجهة حاسمة ضد إسرائيل. وحتى إذا كان الأمر ليس هو الحاصل فإن الأخذ به يشكل فرصة للمجتمع الدولي من أجل وضع نهاية لأعقد مشكلة.

خلاصة القول: إن الدوافع النفسية لـ«الفورة الشبابية» هي الخوف من أن يصبح التهميش الذي دام 30 سنة هو الأمر الواقع في مصر اجتماعيا وسياسيا، أي بما معناه يبقى النظام على استئثاره ورفضه مبدأ الحوار مع الآخرين وأيضا على تجاهله بضعة ملايين من أبناء الشعب مهمشين ويتكاثرون يوما بعد يوم، بينما هنالك حصانة من الدولة لطبقة مهراجات كانوا في بداية الانفتاح الساداتي معروفين بـ«القطط السمان» ثم ها هم حيتان وأسماك قرش لا ترحم، كما يبقى التهميش لبقية الأحزاب والتيارات على ما هو عليه تحقيقا لهيمنة الحزب الواحد الحاكم.

خلاصة القول أيضا: إنه حتى إذا انصرف مبارك نتيجة الاقتناع بعد التشقق الذي يحدث في «الفورة الشبابية» بفعل الحوار السليماني المتقطع لتعديل ما من الضروري تعديله، سلوكا ودستورا ونهجا، أو واصل ما تبقى من أشهر الولاية، فإن مصر العربية ستبقى في الحفظ والصون محروسة على ما خصها الله، سبحانه وتعالى، بتبريك لها. وأما الذي أصابها فإن الذي ينطبق عليه هو القول الشاعري حول النصال التي تتكسر على النصال بدءا من «ثورة 1919»، مرورا بـ«ثورة 23 يوليو 1952»، ووصولا إلى «الفورة الشبابية 2011».