مصر الجديدة!

TT

لم يعد المصريون يتفقون على شيء قدر اتفاقهم على مقولة إن الحال في مصر بعد الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011 لن يكون كما كان قبلها. بعد ذلك نعرف بعض العلامات.. فقد انتهى نظام كامل، أو معظمه، فلا تزال هناك وزارة فيها بقايا من كانوا في السلطة، ولا تزال القوات المسلحة تلعب دورها في إدارة البلاد، وما زال النظام القضائي يقدم مقترحات تعديل الدستور، ويلاحق بإلحاح الآن كثرة من الفاسدين.

ما عدا ذلك تغير كل شيء، ولم يعد ممكنا لا عودة الرئيس، ولا النقاش حول أسخف القصص السياسية في التاريخ المصري حول توريث ابن الرئيس، ولم يبق من الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم إلا أعضاؤه الكثر كجنود من دون جنرالات. الصحف «القومية» والإعلام الرسمي بدأت تبحث عن طرق جديدة للحياة في وجه هجمات كثيرة من داخلها ومن خارجها. إنها لحظة ثورية لا يزال النظام والقانون يجاهد حتى يعود إلى الساحة، وتجاهد الثورة نفسها في إنقاذ نفسها من المصير الذي ذهبت إليه كل الثورات في التاريخ حينما تأرجحت اللحظة الثورية بين الفوضى والدكتاتورية، وتذهب على العكس إلى طريق ديمقراطي لا رجعة فيه بضمانات كثيرة؛ لأنه، كما يعتقد الثوار، سوف يكون العاصم من انحرافات سياسية واقتصادية كثيرة، والشافي من الأوجاع الاجتماعية كلها.

الثوار في مصر لا يعرفون كثيرا عن رأي فلاسفة مثل أفلاطون أو سياسيين مثل تشرشل عن الديمقراطية وإشكالياتها، وما لديهم هو مرجعية عالمية تجعل سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة في متناول اليد فقط حينما يبتعد حسني مبارك وتستقيم أحكام الدستور.. لذلك كانت مطالب الثوار كلها تذهب نحو ضمانات الانتقال السلمي للسلطة، والتعديلات الدستورية التي سوف تأتي، والانتخابات التي سوف تأخذ مصر نحو القرن الحادي والعشرين حتى بعد أن مضت عشر سنوات فيه.

المشهد هكذا مثير، ومصر الجديدة موجودة نعم، لكن عناصر الجدة لم تعد معروفة كسابقتها من هيمنة السدة الرئاسية على الحكم، وما بقي تفاصيل لأحزاب وصحف وحتى فضائيات ومحاورات مساء. وبقدر من الاجتهاد تبدو مصر سائرة بين قوى متعددة كل منها يحاول أن يجد لنفسه قدما في ساحة ينتشر فيها ما يزيد على مليون مواطن.

وللتذكرة فإن مشهد الثورة لا يزال باقيا، وحتى بعد أن غادر الثوار ميدان التحرير فقد وعدوا بالعودة وبقيت تذكارات أيام مجيدة، ومزارات مقدسة يرتادها الشعب ملتحفا بالعلم المصري وألوانه الثلاثة. الأمر فيه فرحة لا يفسدها إلا مشهد الفنادق الفارغة، وأحزان العاملين في المصانع، والمشاركين في البورصة الذين لا يعرفون كيف سوف تنتهي أحوال ثرواتهم. لكن اليوم والثورة دخلت التاريخ على أي حال، لم تعد مصر كما كانت، وأصبحت الأيام الآن في يد المؤرخين سوف يكتبون عنها بأنواع مختلفة من المداد. معذرة، فلم يعد مدادا وإنما «كي بورد» الذي أطلق رصاصة الثورة. المؤرخ على أي حال سوف يكون عليه بحث أحوال أربع قوى تبدو متشابكة مؤقتا، لكنها في الحقيقة منفصلة. متشابكة لأنها التقت في ميدان التحرير أو هكذا كان لقاء في لحظة حرجة مرتجة بالتوتر تارة والفرحة تارة أخرى والأمل في المستقبل تارة ثالثة والخوف منه في تارة أخيرة.

القوة الأولى ومن باب التبسيط هي مفجرة الثورة وصاحبتها الأولى، ولنسمها للتبسيط شباب «غوغل» جماعة الطبقة الوسطى المختلطة بالعالم ولغاته ورافعة الراية الديمقراطية والمدنية في حزم وبلا مواربة. كراهيتها للنظام القديم عميقة، وحتى الآن لديها ظنون حسنة بكل القوى الأخرى، وترى أن الديمقراطية سوف تحل الإشكاليات والمعضلات كلها بالقوة السحرية لصندوق الانتخابات الشفاف. ربما كان لديها بعض الشكوك في التزام الجيش بالفكرة، لكنه لم يكن لديها للانتقال السلمي للسلطة إلا قوة الجيش وعنفوانه. أما غير ذلك فلديها سماحة في القلب، وبراءة من الذنب، في النظر إلى القوى الأخرى كلها انطلاقا من تعددية عميقة تؤمن بها حقا وقولا، وترى أن ما يبدو من انحرافات هنا وهناك، أو نزعات دكتاتورية في هذه اللحظة أو تلك، ما هو إلا نتاج نظام قديم تعود على الكذب والبهتان.

القوة السياسة الأخرى هي كل ما كان في النظام القديم، فقد رحل الرئيس ومن معه، لكن الأحزاب السياسية والإخوان المسلمين والموظفين العاملين في الحكومة والقطاع العام لم يرحل منهم أحد، ومعهم جميعا مشكلات مصر العظمى وتوزيعاتها الديموغرافية والجغرافية باقية كالرواسي الرواسخ، لا حركة فيها ولا قلقلة من تراث طويل وعميق أيضا. هؤلاء يديرون الأمور على طريقتهم التي لا تختلف كثيرا عن الماضي، وكل ما جد أن كلا منهم يريد أن يمد قوته خطوة إلى اليمين أو اليسار. الوفديون لا يزالون يبحثون عن قيادة تيار ليبرالي تغيرت مكوناته ولم يعد كما كان، والليبراليون الجدد في أحزاب أخرى مثل «الغد» و«الجبهة الديمقراطية» لا يوجد لديهم إلا أن يحصلوا على حصة إضافية من الشباب، أما البيروقراطية فإنها أخذت في التوسع حتى أضافت إلى نفسها خلال أسبوع قرابة مليون موظف جديد بقوة العدد وحماس شعار عن العدالة. وبقي الإخوان المسلمون يبحثون خطواتهم، ويعيدون الحسابات حول تلك القوة الجديدة التي ظهرت بعد أن كان الظن أن انهيار الحزب الوطني الديمقراطي وزوال نظام مبارك سوف يحين لحظة قطاف الثمرة، لكن الحزب الوطني ذهب وجاء مكانه حزب «غوغل».

القوات المسلحة هي القوة الثالثة، وهي صاحبة باع في السلطة، وهي حامية النظام القديم حتى لحظته الأخيرة، لكنها أيضا حامية النظام الجديد؛ لأن الجيش المصري المحترف لم يكن جيش نظام وإنما جيش دولة هي الأبقى دائما. وحتى الآن قاد الجيش عملية التغيير بحكمة، ونجح من اللحظة الأولى في اكتساب ثقة الجميع، وفي وقت من الأوقات، على الرغم من شكوك تاريخية لدى البعض من الجيش الذي إذا دخل السلطة لا يخرج أبدا، كان مطلوبا من القوى السياسية كلها الانتقال من الثورة إلى ما بعدها، أيا ما كان هذا البعد. وبعد رحيل مبارك انتقلت السيادة إليه، وبات لفترة تاريخية مصدر السلطات، لكنه نجح في طمأنة الجميع، وأعطى من الإشارات والعلامات أن المجلس العسكري الأعلى ليس مجلس قيادة الثورة، وليس طالب سلطة، وإنما قوة تقوم بعملية إصلاح جراحية واسعة بحد أدنى من الألم.

القوى الثلاث هي مصر الجديدة في هذه اللحظة، التي ولدت من أحشاء ثورة على نظام دام في جوهره ستة عقود؛ وبعد ستة شهور إذا سارت الأمور على حالها، سوف تكون هناك مصر جديدة أخرى.. تعالوا ننتظر ونرَ!