لا تزوروا ملحمة ميدان التحرير

TT

ثورة اللوتس لا تزال مستمرة؛ فالمطلب الأول (إسقاط النظام) غير المفوض من الشعب وغير المنتخب (أوتوقراطية بدأت عسكرية ثم حزب واحد تراكم فساده منذ انقلاب 1952). استقال الرئيس ولم ير أحد نص استقالة موقعة باسمه، كوثيقة تاريخية، حتى الآن.

النظام لا يزال مستمرا، بدليل ظهور رموز فساده في التلفزيون، واستمرار إداراتهم مؤسسات صحافية مملوكة للدولة (ولا خبرة لهم أصلا بالصحافة، بل مؤهلات أصدرتها المخابرات) واستمرار نشر أعمدتهم (ممسكين العصا من الوسط) وكانوا حتى أسبوع يروجون لحكمة الرئيس السياسية.

مطلوب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة خطوات عملية تثبت حسن النوايا للأمة المصرية التي لا يزال دم شهدائها واضحا على أرض ميدان التحرير.

أولها بدأ التحاور مع نشطاء الطبقة الوسطى الذين زرعوا بذور الثورة عام 2004 بإطلاق حركة كفاية (الكلمة من اختراع المناضل الوطني جورج إسحق أحد أهم مؤسسي الحركة) وبدأت الفروع في النمو لتزدهر على الـ«فيسبوك» في 6 أبريل (نيسان) العام الماضي.

فالمجلس لم ينشئ بعد - حتى كتابة هذا المقال - موقعا على الإنترنت أو صفحة على الـ«فيسبوك» للتحاور مع العقل الجماعي لثورة اللوتس، كي يتفرع عن المجلس لجنة تواصل بين مفصليات الأمة، من شعب وأجهزة دولة ومجالس مؤقتة.

ولم يصدر بيان بالتحقيق في القبض على قرابة 120 من ثوار ميدان التحرير دون إذن من النيابة (عشرات المكالمات تتهم المخابرات العسكرية التي يعسكر أهالي المختطفين أمام مبناها)، وكشف غموض الأمر سيزيد من احترام الأمة للجيش الذي تقدر تضحياته منذ حروب إبراهيم باشا حتى عام 1973.

في ميدان التحرير رأيت وجوها من الجيل الذي يذكر أحداث 1952 (تنافس قائمة اللواء محمد نجيب ضد قائمة القصر في انتخابات نادي الضباط. وانقسامهم كان السبب الحقيقي للانقلاب خلافا لتزييف البروباغندا الناصرية للتاريخ).

أراد نجيب تنفيذ وعود البيانات الأولى بالعودة للثكنات، ليتولى برلمان منتخب تشكيل الوزارة، فوضعه الكولونيل جمال عبد الناصر تحت الإقامة الجبرية عام 1954، وبدأت الدولة البوليسية ومهزلة الاتحاد الاشتراكي الذي غير الأفرول إلى بذلة «الوطني الديمقراطي» (وعاد الأفرول مع الجلاليب وجينزات البلطجية على ظهور الجمال يوم 2 فبراير/ شباط وملقي القنابل الحارقة على أولاد وبنات الناس لولا صمود مصر ليلتها واحتفاظ الثورة بالميدان، والثمن دماء الشهداء والجرحى).

ذاكرة الكهول سيطمئنها إصدار المجلس العسكري تعهدا واضحا بالولاء للأمة، ممثلة في برلمانها، أي تعهد الجيش بإطاعة أوامر حكومة انتخب الشعب جميع وزرائها بمن فيهم وزير الدفاع (ولو كان عسكريا، يترك الخدمة لخوض الانتخابات).

وزير الدفاع البريطاني مدني منتخب ككل ديمقراطيات الدنيا.

الخطوة الثالثة هي إنهاء الحكم بقانون الطوارئ، بدلا من حجج واهية مثل فرار مجرمين من السجون، فمواد القانون الجنائي كافية لمحاكمة أي عمل إرهابي في محكمة مدنية (قتل، تعمد قتل، تخريب ممتلكات، التآمر على التخريب.. إلخ). ومطلوب أيضا من المثقفين وأكاديميي العلوم السياسية تصحيح الأكاذيب بدلا من ترويجها.

وليراجع المثقفون المصريون ضمائرهم ليصححوا كذبة القرن العشرين بدلا من ترويجها، فحركة الضباط في 52 (وسببها انتخابات نادي الضباط) بكل مقاييس علوم السياسة والتاريخ هي انقلاب عسكري عرف به الشعب من الإذاعة. وللأسف يغالط مثقفون وأكاديميون التاريخ ويسمونه «ثورة يوليو» رغم أنه لم تسر مظاهرة شعبية واحدة أوحت للعسكر بالانقلاب.

نرجو ألا يكون الأمر تملقا للإدارة العسكرية الجديدة، طمعا في المناصب، فيكرر التاريخ نفسه عندما تولى الضباط «وألاضيشهم» وزارات المعارف والثقافة والمالية والمواصلات، فخربوا مصر؟

وهي ليست «ثورة شباب» فقط، فمن يشاهد لقطات «يوتيوب»، والتلفزيونات المتعددة يرى أسرا بأطفالها، وشيوخا في السبعينات (الصحف البريطانية نشرت صور الشهداء ومقابلات مع الدروع البشرية المصرية وأعمارهم ما بين 15 إلى 68 عاما، من مختلف الطبقات).

أكثر المغالطات إضحاكا في بلوتها مقالات بعض الكتاب، خاصة القومجية العربويين من ساسة حزبيين إلى وزراء، إما فانتازيا التمنياتwishful thinking؛ وإما هستريا الزج بالعقل في سجن الآيديولوجيا القومجية؛ وإما الكذب السياسي (حسب نظرية غوبلز، وزير بروباغندا النازية الذي صدقت وزارته الأكاذيب التي اخترعتها) لإلهاء الشعوب عن مشكلاتهم الاقتصادية وغياب الحريات بالمعركة الوهمية لتحرير فلسطين، فصدقوا البروباغندا التي اخترعوها.

ومثل الخيال العلمي، هناك الخيال السياسي political fiction، وكاتبة تعتقد أن الأمة المصرية ثارت احتجاجا على معاهدات السلام مع إسرائيل، وتشوق جيشها لخوض حروب الآخرين (الذين لا يحاربون أبدا من أراضيهم المحتلة).

لم ترفع ثورة اللوتس، طوال 18 يوما، شعارا واحدا عن دعم فلسطين أو ضد إسرائيل. ولم يتظاهر ولا ثلاثة أشخاص أمام السفارة الإسرائيلية، (أو السفارة الأميركية وراء ميدان التحرير مباشرة)، ولم يطالب أحد برحيل السفير الإسرائيلي، وإنما طالبوا برحيل رأس النظام. ولسنا في رمضان لنقول إنها تخاريف صيام، وربما تخاريف الأرق من انتقال الثورة إلى شعوبهم.

ومن أخطاء الرئيس مبارك، ونائبه، أثناء الثورة، وضعهما الحاجز اللغوي بينهما وبين المصريين بإلقائهما الخطابات بالعربية التي لا ينطقها أحد في مصر (فالمصرية ليست مجرد لهجة، لكنها لغة حية تتطور مفرداتها بالآلاف التي لا مقابل لها في العربية).

لغة الرجلين ارتبطت في وجدان الأمة المصرية بالزج بجيش البلاد في حروب لا علاقة لها بمصالح الأمة المصرية وإنما بالطموحات الآيديولوجية للكولونيل عبد الناصر - كغزو اليمن وخسارته 35 ألف قتيل، وفرض الحصار البحري على ملاحة إسرائيل في خليج العقبة، وهو في القانون الدولي إعلان بالحرب عام 1967، التي تكبدت فيها مصر أكبر الخسائر رغم عدم تهديد إسرائيل لمصر، وإنما كانت مناوشات سورية - إسرائيلية بعد محاولات الأولى تحويل مجرى نهر اليرموك بعيدا عن الثانية.

ارتبطت المرحلة في الأذهان بالوحدة مع سورية، التي كلفت مصر أعباء اقتصادية هائلة وإعلان ميلاد الدولة البوليسية وشمولية الحزب الواحد، وإلغاء اسم مصر وحملة الاعتقالات ابتداء من الشيوعيين حتى الإخوان، مع إرهاب المفكرين والكتاب والفنانين، لمحو القومية المصرية واستبدالها بميثولوجيا القومية العربية، التي تذيب هويات العرقيات غير العربية - أكراد، آشوريين، أرمن، نوبيين، سكان وادي النيل، الأمازيغ،، جنوب السودان).

فليحترم هؤلاء عقول مواطنيهم وقرائهم؛ فالأمة المصرية انتفضت لاستعادة الديمقراطية بثورة «سلمية» لا من أجل الحروب الآيديولوجية. الوجدان الشعبي اختار رمزا فرعونيا حملته إيزيس لثورتها «اللوتس» وأغنية الثورة «في كل شارع في بلادي، صوت الحرية بينادي» كلها باللغة المصرية وليست فيها كلمة واحدة بالفصحى. الخطوة الأولى للثورة، استعادة الهوية المصرية، وبعدها يبدأ المشوار.