حتمية الفصل بين الملكية والإدارة في الثورة المصرية

TT

الفكر الثوري يهدف إلى إزالة الواقع تمهيدا لبناء واقع جديد ملامحه ليست واضحة، والفكر الإصلاحي يسعى لتغيير الواقع بتقوية أعمدته وإصلاح أساساته، وذلك من أجل جعله أقرب ما يكون إلى الجمال والعدل، وهما القيمتان اللتان تحتويان على كل القيم العليا. ولقد كتبت كثيرا عن الدولة ذات المؤسسات بوصفها الحامي الوحيد لحقوق الإنسان الفرد، وكل كتاباتي عن الدولة لم تكن لإقناع المواطن بأهميتها المطلقة، بل لإغراء رجال الدولة في مصر ونسائها أن يؤمنوا بحتمية عدالتها وقوتها، غير أنني أقطع بأن أحدا منهم لم يقرأ لي أو لغيري كلمة واحدة. لست أكتب هذه الكلمات للمفاضلة بين الفكر الثوري والفكر الإصلاحي، فلا جدوى من ذلك الآن ولا فائدة، فبعد الثورة المصرية بلحظات كان واضحا للجميع أن الفكر الإصلاحي في مصر أعلن فشله على كل الجبهات، ليس لضعفه أو لانعدام أهميته، بل لأن نظام الحكم ذاته كان مصابا بحساسية شديدة ضد الإصلاح وضد كل من يطلبه أو يستجديه. وكأن كل فرد في النظام، صغر أم كبر، كانت توجد على رأسه بطحة يتحسسها عند ذكر أي إصلاح يتطلب علاجا، أو ضمادات جديدة، أو حتى مجرد الاستعانة بطبيب.

في اللحظات الأولى بعد تنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك عن الحكم، ملأت الفرحة قلوب الجميع، ومنهم كاتب هذه السطور، شعرت بالارتياح الذي يشعر به الإنسان عادة عندما يستيقظ من كابوس ثقيل طويل.

الواقع أن الشبان الذين استخدموا ميدان التحرير منصة إطلاق لثورتهم حرصوا على عدم تقديم شخص أو أشخاص باعتبارهم مسؤولين عن الثورة، وبالتالي مسؤولين عن تبعاتها ونتائجها. لحسن الحظ، وفي اللحظة المناسبة، تولت المؤسسة العسكرية المصرية المسؤولية، مسؤولية إدارة شؤون البلاد إلى أن تصل بها إلى شاطئ الأمان الذي يبدو لي بعيدا جدا. ومما يجعله بعيدا أكثر هو عدم الفصل بين الملكية والإدارة في مشروع الثورة، هذه الثورة فجرها الشباب بالنيابة عن الملاك، وهم الشعب المصري، ثم تولت إدارتها المؤسسة العسكرية، وهو ما يحتم عدم التدخل في عملهم وتعطيل أدائهم إلى أن يتموا ما بدأوه، غير أن بعض الثوار ما زالوا يعملون على قاعدة أن الرئيس السابق مبارك ما زال يحكم، وأن عليهم مواصلة العمل لإزالته، هكذا نشأت ازدواجية أراها معطلة وخطرة.

لعل أفضل ما يفعله الشباب المؤسسون الآن هو إنشاء حزب وجريدة ومساعدة المؤسسة العسكرية بكل الطرق على أداء مهمتها. لقد اكتسبوا مواقع مهمة في قلوب الناس، وعليهم عدم استخدام حب الناس لهم وتقديرهم لتضحياتهم لوضع العصي في الدواليب، فالمشوار طويل جدا، والطريق الموصل للحياة الطبيعية في مصر مليء بالمشكلات والمخاطر. إن الشبحية التي استخدمت في الاعتصام والمظاهرات والتي أفزعت النظام وأفقدته قوته وتماسكه بفرض وجودهما، لم تعد في صالح الثوار ولا في صالح المصريين، لا بد أن نعرف من أنتم وما هو الإطار السياسي والاجتماعي الذي ستتعاملون به مع الشعب المصري، لكي يمكن التحاور معكم وتفادي سوء الفهم أو التفاهم.

لقد شاهدت فيلم الثورة من قبل، منذ نحو ستين عاما، وعشت كل مشاهده الممتعة والمؤلمة، ومن المفردات المتناثرة في الفضائيات لبعض شباب الثورة تعود إلى ذهني أسوأ مشاهد الثورة الأولى التي تطلبت نتائجها حدوث ثورة أخرى بعد ستين عاما. نعم.. ثورة 25 يناير 2011 لم تعزل الرئيس السابق مبارك فقط، بل أنهت ثورة يوليو 1952. كل ما كنا نعيشه في مصر من حياة استثنائية ورثناه عن يوليو، وكان من الممكن بعد انتصار أكتوبر 1973 أن تفلت مصر من أسر الاستبداد الشرقي الشهير وتبدأ عهدا جديدا من الحرية والديمقراطية والإدارة الرشيدة، غير أن القدر تدخل في صدفة سيئة وقتل السادات، فعاد النظام إلى قواعد يوليو ليقيم عليها أكثر الأنظمة سوءا.

من خلال الكلمات المتناثرة لبعض الشباب الذين فجروا الثورة، ألمح حملة قادمة لاصطياد الساحرات، وهذا واضح من استخدام تعبير «الثورة المضادة»، وهو ما أعاد إلى ذهني أشد الأوقات سوادا في ثورة يوليو. في ثورتنا الأولى كانت لدينا مناجم غنية بعناصر الثورة المضادة تمكنت الثورة من الفتك بهم جميعا، فهل سنمشي مجددا في نفس الطريق؟ علينا أن نحدد المقاييس المطلوبة في العمل، فليس من المعقول أن نطلب إبعاد شخص ما من وظيفته لأنه من «بتوع» مبارك، أو تم تعيينه في عهد مبارك. هذا مقياس انتقامي لا يتسم بالحكمة، فلا أحد على قدر كبير من الكفاءة والخبرة والنضج «بتاع حد». أنا أعرف جيدا نشوة الانتصار، غير أنني أحذر منها، وفي المقابل، ليس كل من كان ضد حكومة مبارك، كان مؤمنا بحقوق الإنسان أو بالحرية والديمقراطية، والاستعانة في التشكيلات الجديدة بشخص لمجرد أنه كان ضد مبارك، خطأ سياسي. مع مبارك أو ضده ليس مقياسا صالحا للعمل، والدليل على ذلك العدد المهول من العاملين في إعلام مبارك الذين لم يفعلوا شيئا في حياتهم سوى الدفاع عن حكمته وشتيمة خصومه، في لحظات تفرغوا لشتيمته ولعن أيامه. هل كانوا معه أم كانوا ضده في حقيقة الأمر؟ هل كانوا «بتوعه» ثم أصبحوا بتوع الثورة؟ لا هذا ولا ذاك.. لا يوجد عندهم ما يسمى «حقيقة الأمر»، الحكاية وما فيها أنهم عجزة لا يجيدون مهنتهم، والمديح هو الوجه الآخر للشتيمة. هؤلاء كانوا خطرين على النظام القديم كما هم أيضا خطرون على النظام الجديد وعلى أي نظام في الدنيا، لأنهم عاجزون عن التفكير الصحيح ومعرفة الحقائق ثم نقلها للناس، أما الأخطر من ذلك كله فهو أنهم لا يؤمنون بشيء.

هناك أيضا حديث عن «قطع دابر» بعض الناس الذين كانوا يعملون في النظام القديم، لست أعرف بالضبط كيف سنقطع دابرهم، أنا أفهم أن يتم تحويل أي عدد من البشر إلى النائب العام وتقديمهم إلى القضاء لمعاقبتهم عما اقترفوه، ولكن جملة قطع الدابر هذه تشعرني بالقلق والخوف. يبدو أن النصر الكاسح المستحيل، الذي تحقق على الرغم من استحالته، أشعر بعض الثوار بالخوف وملأهم بالهواجس إلى الدرجة التي بدأوا يشعرون فيها بأن خلف كل حجر ثعبانا. نظرية المؤامرة بدأت تنتعش بشكل يوحي بالخطر، إلى الدرجة التي تساءل فيها أحد الشبان: كيف تفسر تلك المظاهرات الفئوية التي حدثت فجأة في كل مكان؟

لقد سئلت في عدد من الإذاعات الأجنبية: هل من الممكن أن يسرق هذه الثورة أحد من القوى الموجودة في الساحة؟

وكانت إجابتي: لا أحد في مصر يستطيع ذلك.

والآن، بعد أن خطب الشيخ القرضاوي في جماهير الشباب وأمّهم في صلاة الجمعة بميدان التحرير، بدأت أفكر في أن إجابتي كانت خاطئة.