انتفاضة الضمير

TT

ارتبط السعي لتحقيق العدالة بمسيرة الإنسان منذ فجر التاريخ عبر سلسلة من المحاولات. كانت آخر حلقة فيها فكرة الثورة البروليتارية التي بشر بها ماركس. ولكنها فشلت الآن. وكما يعمد جسم الإنسان إلى التغلب على مرضه بتطوير مضادات دفاعية، يعمد ضميره للتغلب على فشله بتطوير وسائل سياسية جديدة تدحر الظلم وتقربنا للعدل.

من هذه الوسائل الجديدة عمليات الفضح التي أخذت تشيع في كل مكان. لقد انتفض ضمير البعض، فراحوا يكشفون عما بأيديهم من أسرار. أصبحت الدبلوماسية السرية مهددة بالزوال. كان الكشف عن وثائق «ويكيليكس» خطوة منها. تبعها آخرون بالكشف عن وثائق المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. بيد أنني أعتقد أن أهم من كل ذلك كان ما فعله موظف صغير في بنوك ليختنشتاين، الموطن التقليدي للحسابات السرية والأموال الحرام. سلم الحكومة الألمانية «السي دي» التي تحتوي على أسماء كل المودعين وتفاصيل حساباتهم. تبعه مؤخرا موظف آخر في سويسرا في نطاق محدود.

أسفر ذلك عن مفاوضات بين كبريات الدول الغنية، ألمانيا وبريطانيا وأميركا مع سويسرا وليختنشتاين، تتعهد فيها هاتان الدولتان بالكشف عن تفاصيل أي حسابات مشبوهة، مع هدنة للمودعين يعترفون بموجبها بحساباتهم ويثبتون شرعيتها ثم يدفعون غرامات محدودة لقاء العفو عنهم. في إطار هذا الوضع الجديد أسرعت سويسرا والبنوك البريطانية إلى وضع الحجز على كل ودائع أسرة زين العابدين.

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. فإن الخوف من العمليات الإرهابية وتجارة المخدرات والرقيق الأبيض وتفاقم الجريمة وغسل أموال، كل ذلك أدى إلى تحريك الغرب للتدخل والرقابة على العمليات المصرفية. لا تستطيع اليوم أن تفتح أي حساب أو تودع أي مبلغ كبير أو تحمل أكثر من ثلاثة آلاف باوند من دون تفسير وإثبات شرعية المبلغ.

أعتقد أن هناك ضرورة لإبرام اتفاقية عالمية تتعهد فيها كل البنوك بإصدار قائمة سنوية بأسماء كل زبائنها وتفاصيل حساباتهم. بالطبع ستعترض كل الحكومات والمؤسسات المالية والصناعية على مثل هذا الإجراء. فهي تعتبر السرية من عناصر نجاحها في عملها. ومن منا يرتاح للكشف عما عنده من فلوس أو ما يعانيه من فقر. كما أن الدول الغربية التي تعاني من الإفلاس اليوم حريصة على تسلم الأموال من أي مصدر كان، حلالا أو حراما.

ومع ذلك، فإنني أرى أن مثل هذا الإجراء سيكون خير سلاح لمقاومة الفساد عالميا. ما من قانون أو رقابة تنجح في ردع المسؤول عن سرقة أموال الدولة أو قبض الرشوة ما دام الباب مفتوحا له لاستثمار وإيداع ما بيده من مال حرام. من يخافون الله ويعذبهم ضميرهم أصبحوا قلة صغيرة مع الأسف. والشيطان قائم بيننا والطريق لسويسرا وليختنشتاين ولندن سالك وميسور. كل هؤلاء المتظاهرين في تونس والقاهرة يضيعون وقتهم في المطالبة بتغيير النظام. المطلوب شيء واحد: قانون من أين لك هذا؟ واتفاق دولي للكشف عن الحسابات السرية. لقد علمنا العراق أنه لا فائدة قط من استبدال حاكم بحاكم.