التاريخ يكتسح شمال أفريقيا والشرق الأوسط

TT

لم أعد أذكر عدد المرات التي سمعت فيها خلال السنوات الماضية التأكيد الشائع بأن الخيار الوحيد المتاح في العالم العربي هو بين الديكتاتورية أو الخضوع لحكم المتطرفين. وحتى وقت قريب كانت الفرصة الوحيدة المتوقعة لانتهاء حكم بن علي أو مبارك أو القذافي هي تسليم سريع للسلطة لأبنائهم، وطبعا نتيجة ذلك بقاء الأمور على ما كانت عليه.

إن أعمال العنف التي غمرت العراق في السنوات التي أعقبت غزو عام 2003 دفعت بالكثيرين للقول إن مثل تلك الدول بحاجة ربما لقائد ذي جبروت لا يرحم. ولربما بدت تأكيدات «مستشرق» مثل بيرنارد لويس، ومفكر إسلامي مثل سيد قطب، في بعض الأحيان متشابهة كثيرا بالقول إن ما يطلق عليها القيم الغربية - كالحريات والمساواة والديمقراطية - تعتبر قيما غير متوافقة مع العالم الإسلامي.

لكننا شهدنا في الأيام الأخيرة مواطنين ليبيين يبرهنون خطأ الجميع، أهدافهم واضحة ويتصرفون بشجاعة تتجاوز ما يمكننا استيعابه في أوروبا، حيث يواجهون نيران الأسلحة الرشاشة والبلطجية القتلة والقنابل العشوائية التي أرسلها نظام فقد صوابه ويهدد بمقاتلتهم حتى آخر رصاصة.

وما شد انتباه الغرب كذلك هو أن المتظاهرين في ميدان التحرير وفي دوار اللؤلؤة وفي تونس وفي بنغازي لم يهتفوا «الموت لأميركا»، أو يحرقوا أعلام بريطانيا، أو يطالبوا بتأسيس دولة إسلامية (وهو ما يود سيف القذافي أن نعتقده)، بل إنهم طالبوا بالسبل السلمية بأن ينالوا حرياتهم، ويتمتعوا بمواطنتهم، وصيانة حقوق الإنسان، وإجراء إصلاحات في بلدانهم.

لقد دأبت بريطانيا منذ سنوات كثيرة على الضغط بإصرار على مثل هذه الأنظمة بشأن ضرورة توفير هذه الحريات، واحترام المجتمع المدني، والسماح بحرية وسائل الإعلام ومنح الحريات السياسية. إلا أن إحدى الصفات المميزة لهذه الثورات هي أنها اندلعت على الرغم من جهود الغرب، فكانت حركات عفوية نظمها مواطنون عاديون لديهم مظالم وهموم مشروعة، اكتشفوا فجأة مدى قوتهم حينما تعاضدوا لأجل مصلحة أمتهم ككل.

كما سمعت الكثير من نظريات المؤامرة التي بدأت تنتشر، من بينها: بكل تأكيد ما كان لهذه الأحداث أن تقع لولا تواطؤ الولايات المتحدة وتحريكها للأمور خلف الكواليس (وكأن أميركا هي القوة الوحيدة القادرة على تغيير الوضع في المنطقة!) أو ربما أن إسرائيل قررت أن مبارك لم يعد يخدم مصالحها. لكن في الحقيقة تحاول الولايات المتحدة بكل جهد اللحاق بالتطورات السريعة في الأحداث، مثلها في ذلك مثل باقي الدول. وفي الواقع فإن ما نشهده هو أن شعوب شمال أفريقيا وغيرها بدأت للتو اكتشاف قوتها وطاقاتها الداخلية. هذه المنطقة لم تعد تحت قبضة الاستعمار أو سيطرة أو وصاية خارجية. بل بات واضحا للعالم فجأة أن هناك شعبا تونسيا لن يستسلم للظلم والقمع، وشعبا مصريا، و.. و..

من الملهم جدا التحدث إلى التونسيين والليبيين هنا في لندن، وهم مغمورون بالإحساس بالحرية لأول مرة، وقادرون على التعبير عما يدور في عقولهم من دون الخوف من أن هناك من يراقبهم، ومن دون خشية العواقب.

ونحن هنا في بريطانيا سوف ندعم بكل ما أوتينا تلك التحركات الحاسمة تجاه الإصلاح والحريات، وهي تضاهي سقوط جدار برلين والغبطة التي شعرتها شعوب دول أوروبا الشرقية، التي بات باستطاعتها لأول مرة الإدلاء بدلوها في كيفية إدارة بلادها.. رغم أنه من المفضل كثيرا بالطبع مشاهدة الانتقال سلميا عبر الهياكل السياسية، مع توفر مرونة كافية لتبني الإصلاح.

وقد أوضح ديفيد كاميرون، وهو أول شخصية كبيرة تزور مصر بعد الثورة، أن بريطانيا سوف تقف إلى جانب مصر ودول المنطقة في سعيها للإصلاح، بينما أكد ضرورة استمرار القيادة الانتقالية في مصر في العمل على تنفيذ رغبة الشعب بشكل يحقق إحداث تغيير ديمقراطي حقيقي. وسوف نستمر في مساءلة السلطات التونسية والمصرية، لكننا في الوقت نفسه سنقدم مساعدة حقيقية عبر برنامج صندوق الشراكة العربية الذي أعلنا عنه مؤخرا.

كما أكد ديفيد كاميرون في كلمته أمام مجلس الأمة الكويتي أن الحرية باتت تكتسح المنطقة، بينما أقر في تدارك مهم في الوقت نفسه بأن الغرب كان على خطأ بدعمه لأنظمة غير ديمقراطية. وقال إن «حرمان الشعوب من حقوقها الأساسية لا يحفظ الاستقرار، بل على العكس يزعزعه».

لهذا السبب فإن بريطانيا هي واحدة من أكثر الدول صراحة في إدانتها لقتل النظام الليبي لأفراد شعبه. ومنع النظام لوسائل الإعلام من التغطية وحجبه الاتصالات وكذبه بشأن الأوضاع الحقيقية على الأرض لم يخدع أحدا. فالعالم كله يراقب الوضع في ليبيا، ويتعين أن يواجه المسؤولون عما حدث العدالة بشكل أو بآخر.

نأمل جميعا ألا تستمر معاناة الشعب الليبي، وأن يتمكن الليبيون في القريب العاجل من التمتع بالمذاق العذب للحرية التي تكتسح حاليا شوارع القاهرة وتونس. وإننا نحيي فيكم شجاعتكم وعزمكم، ونأمل أن تفضي جهودكم إلى توفير الحريات والإصلاحات التي تنشدونها. كما نناقش مع شركائنا ما هي الخطوات المستقبلية التي يمكن اتخاذها، من بينها العقوبات مثل حظر السفر وبيع الأسلحة.

* الناطق باسم

وزارة الخارجية البريطانية

* خاص بـ«الشرق الأوسط»