«جمهوريات كيم إيل سونغ» العربية.. عند خط النهاية

TT

«كيم إيل سونغ القائد العظيم لأربعين مليون كوري»

(شعار شهير لزعيم كوريا الشمالية السابق الراحل)

منذ «ثورة الياسمين» في تونس، التي أطلقت المارد من القمقم - أقله على الصعيد النفسي - على امتداد العالم العربي، عكف المحللون العرب والأجانب على البحث في طبيعة ما حصل، ومآل التداعيات، وعناصر التشابه والاختلاف في أوضاع معظم الأنظمة العربية.

وكان الاهتمام الأكبر منصبّا، بعد ثورة «25 يناير» في مصر و«17 فبراير» في ليبيا، وما تشهده الساحة اليمنية من اعتمالات، على مصائر «الجمالك».. أو الجمهوريات التي قامت على منطلقات ثورية وشعبوية ترفع شعارات الاشتراكية والتحرر، لتنتهي على طريقة «الطيب الذكر» كيم إيل سونغ، خلال بضعة عقود، إلى أنظمة حكم مطلق لا يعترف بفترات رئاسية، ولا يكترث لتعددية حزبية، ولا يتورع عن العمل بالسر والعلن على التوريث.. ولو عبر تعديل الدساتير.

«جمهوريات كيم إيل سونغ» العربية هذه أطلق عليها بعض الخبثاء لقب «الجمالِك»، أو الجمهوريات المَلَكية. وهي، أو بالأصح ما تبقى منها، في مأزق حقيقي اليوم، بسبب اختلالات أساسية في تركيبتها التنظيمية، ومنظومة مُثلها الفكرية، وأسلوب ممارستها السلطة عندما تجد نفسها في موقع مساءلة. وما ظهر خلال الأسابيع القليلة والماضية وحتى اليوم من ردود فعل أثبت أن قياداتها عاجزة عن احترام حرية المواطن، ورافضة مبدأ السماح له بالتعبير عن ظلاماته، مع أن من شأنه أن يشكل متنفسا أو «نظام امتصاص صدمات» يقيها من غدرات الزمان.. و«غضبة الكريم إذا جاع».

مما لا شك فيه أن التركيبة البنيوية لـ«الجمالك» العربية، من «عراق صدام حسين» إلى «تونس زين العابدين بن علي» تتفاوت تفاوتا كبيرا.

ففي بعضها، مثلا، ثروات نفطية لو وجدت في بلد يعيش تحت حكم نظام يفهم أصول التواصل مع مواطنيه.. لكانت أكثر من كفيلة بضمان استقرار كل من النظام والبلد.

غير أن صدام حسين، على الرغم من إنفاقه مليارات الدولارات على المشاريع الإنشائية والعلمية والبحثية المفرطة في الطموح، وعلى المنح الدراسية السخية في الخارج، لم يستوعب إطلاقا مخاطر «لعبة الأمم» وتبعات محاولات تغيير الخرائط بالقوة وسوء قراءة المتغيرات الدولية.. التي لا ترحم. وبالنتيجة، زجّ العراق في مغامرات خطيرة انتهت بإسقاطه وإعدامه بعد حرب دمرت العراق.. وهددت، ولا تزال تهدد، مستقبله.

الشيء نفسه يمكن أن يقال عن تجربة معمر القذافي في ليبيا منذ 1969، إذ لا مجال للإنكار أنه في حساب الأرقام على صعيد معدلات الدخل والتنمية، وبالذات على المستويين الأفريقي والعربي، احتلت ليبيا، ولا تزال تحتل، مكانة متقدمة. لكن، كما جاء في إنجيل متّى: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وإطعام الناس في ظل الإصرار على احتكار حق التفكير بالنيابة عنهم ما كان ضمانة كافية لنظام حكم تعمد على امتداد أكثر من 40 سنة تقزيم كل مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، وفرض منظور أحادي عبثي في تقديره لدوره ووزنه، وعبثي أكثر في علاقاته العربية والدولية.

الوضع في مصر مختلف تماما. فالموارد النفطية هنا أقل مما يتيح لدولة بحجم مصر البشري، أن تشعر بالارتياح الاقتصادي. بل إن النظام السابق كان يواجه اعتبارات والتزامات داخلية وخارجية صعبة، وأخفق في نهاية المطاف في ضبط طريقة تعامله معها. ولفترة غير قصيرة، ساورت الهواجس كثيرين حول مدى تحسس مؤسسة الحكم نبض الشارع وتنبهها لما يشغله. ولا شك أن مؤسسة الحكم أخطأت في حساباتها «الأبوية»، سواء في موضوع الفساد أو التوريث أو ترددها في لعب الدور القيادي الطبيعي لمصر إقليميا. وطبعا، خذلها الإعلام الدعائي الموجه عندما طمس المتغيرات الراديكالية التي بثها جيل الشباب في الشارع المصري.

أيضا، حالة اليمن مختلفة، وإن كانت على قدر كبير من الخطورة. فالوضع المتفاقم يسير - كما يبدو - باتجاه تعطيل لغة الحوار. والسلطة، لتاريخه، قلقة من إساءة الشارع تفسير خطواتها إن هي قدمت تنازلات، لكنها كلما تصلبت زعزعت في نظر المعارضين أي صدقية تبقت لها عند الأطراف المناوئة.. وهي غاضبة ومتعددة، وغير قليلة.

ولكن، أبعد من اليمن، ثمة مَن يستبعد حدوث شيء في سورية. وفي طليعة المقتنعين بأن سورية في منأى عن أي «هزة».. الحكم السوري نفسه، تحت حجة أنه يتمتع على المستوى الجماهيري بفضيلة مصادمة إسرائيل، طبعا حسب أدبياته وخطابه السياسي.

ولكن إذا كان ثراء العراق وليبيا النفطي لم يكن كافيا لإنقاذ نظامي صدام والقذافي من شفير الهاوية، فإن وهم مقارعة إسرائيل ليس ضمانة يعتد بها في سورية، لا سيما إذا كان في سورية من يشك في هذا الكلام أصلا.

ثم إن الحكم «التوريثي» في سورية استمر لأنه نجح حتى الآن في تصدير أزمته الداخلية إلى جيرانه، وتحديدا العراق ولبنان، لكنه اليوم يلعب لعبة توازن خطرة جدا في منطقة تتبدل فيها الأولويات السياسية بسرعة. وبعد تراجع أسهم «البعبع» الأصولي الإسلامي الذي كثيرا ما استغله بعض قادة «الجمالِك» العربية أمام الغرب، لتحسين فرص بقائهم في السلطة، وآخرهم العقيد القذافي وولي عهده الدكتور سيف الإسلام، قد تخسر دمشق عند من تدعي أنهم خصومها الاستراتيجيون ورقة مهمة جدا.

إن ما حدث ويحدث اليوم في المنطقة العربية لا يدل فقط على أن حكام «الجمالك» كانوا نمورا من ورق، بل ربما يشير إلى أن البديل الأصولي - كما يظهر في العراق ومصر - ليس قَدَر المنطقة ولا شعوبها.