هل رأى «الحكم» سكارى؟

TT

هناك العديد من العبر والدروس التي نتجت عن ثورات تونس ومصر وليبيا الآن، وأثرها تخطى الحدود وعبر القارات، وباتت ملامحه موجودة في دول أخرى. فها هي شوارع العاصمة اليونانية تتفجر غضبا باحتجاجات لموظفين وعمال يطالبون بحقوقهم، وها هم عمال نفايات ولاية ويسكنسون بأميركا يحتجون مطالبين بحقوقهم أمام رجال الكونغرس من ولايتهم في اجتماع كان من المتوقع أن يحضره خمسون شخصا، ففوجئ الجميع بحضور 25 ألف شخص وتأييد سبع ولايات أخرى لهم، وحينما سأل بعضهم بعضا عن «سر» هذا الحماس الكبير قالوا: «لقد ألهمنا بالثورة المصرية».

لسنوات طويلة كان هناك إحساس خفي في الذهنية العربية يسيطر عليه الخجل والعار.. إحساس بأنهم أمة تخلفت عن ركاب الآخرين، وسقطت في أوحال الأمية والتخلف والاستبداد والفساد والتسلط، مما أدى إلى أن يحصل هناك شعور كبير لدى أجيال بأكملها بالقنوط واليأس من الإصلاح. وهذا ما كان واضحا تماما في ذهنية الأنظمة التي سقطت وتترنح في العالم العربي.. رسالة الشعب في واد ومطالبهم الواضحة فيها، والخطاب الرسمي في واد آخر تماما.

المتظاهرون في تونس كانوا يبحثون عن «الكرامة» التي أهدرت في رمز ضرب محمد البوعزيزي، الشاب المهندس العاطل عن العمل، بـ«كف» على وجهه من موظفة حكومية، فانفجر الشعب لكرامته المهدرة، ولم تعد تفيد وقتها التغييرات المهينة بتغيير وزير أو اثنين، أو وعود وهمية بمئات الآلاف من الوظائف، وليس ذنب الشعب أن «بن علي» فهمهم متأخرا، وكذلك بالنسبة للرئيس المصري الذي «بح» صوت الناس معه وهم يبلغونه برفض مشروع التوريث لابنه، واحتجاجهم الشديد على دور رجال الأعمال وارتباطهم المريب بالسلطة وبابنه جمال، لكن كان هناك «تحقير» واستهزاء مستمر بهذه الآراء، حتى جاء الخطاب الرسمي للرئيس بعد أيام من المظاهرات وسقوط القتلى خطابا مستفزا فوقيا بلغة فيها الكثير من التقليل والإنكار لما حدث.

وطبعا جاءت الكارثة المرعبة في خطاب القذافي وابنه (وكلاهما بالمناسبة بلا صفة رسمية بحسب العرف السياسي الكوميدي في ليبيا)، واللذين كانا أشبه بقادة عصابات المافيا أو الميليشيات الموتورة في الأدغال، وردهما كان بالدم والإهانة. كل هذه الأنظمة كانت استبدادية تحقر من شعوبها وتحتقر مطالبها، وتسعى لفكرة التوريث والاستبداد المطلق بالحكم وتسخير موارد البلاد لها ولحفنة من المحاسيب والأنصار الذين حولوا الدولة إلى مرتع لهم ولمصالحهم.

اليوم شعور الخزي والعار والخجل الذي كان لصيق الذهنية العربية تحول إلى شعور بالفخر والعزة والإحساس المهول بالتمكين والنصرة والحق. جمعتني الصدفة بموظف تونسي في السعودية، وسألته عن إحساسه هذه الأيام، فأجاب بابتسامة: «يا سي حسين.. من سنة، كان لا يمكن أقدر أجاوبك بصدق، إنما اليوم أقول لك تونس حرة، والتونسي حر».

المطلب الأساسي للشعوب في الثورات الثلاث (وهو ما عجزت عن فهمه أنظمتهم) هو حق العيش بكرامة، وهو الحق الممنوح إلهيا من الحق عز وجل للبشر.. أن تكون لديهم فرصة العمل والعلم والسكن والعلاج والعدل. إنها علاقة متزنة بين الدولة والشعب والحاكم والمحكوم، إذا اختلت يحصل ما حصل. الظلم والفساد والفقر هي أدوات سلب العيش بكرامة، وإذا اعتقدت الحكومات أن حلولا أخرى ممكنة فهي على خطأ.

ما حدث في مصر وتونس وليبيا كان حالة من السكر السياسي، وغيبوبة تامة عن الواقع تغير فيها التاريخ.

[email protected]