آية الله ومكيافيلي

TT

بعد أن عكف على المراوغة والالتفاف حول القضية لشهور، أصدر «المرشد الأعلى» الإيراني آية الله علي خامنئي، مؤخرا، أوامره بإلقاء القبض على كبار قادة «الحركة الخضراء» المعارضة.

وتشير التقارير الواردة من طهران إلى أن رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي ورئيس البرلمان السابق مهدي كروبي، تم ترحيلهما إلى سجن بشرق طهران. ويرافق الرجلان، اللذان لا يزالان يطعنان في شرعية إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2009، زوجتيهما.

وقد حاول موسوي وكروبي خلق معارضة موالية، وهو أمر مستحيل في نظام مثل ذلك القائم في طهران، ذلك أن المبدأ الأساسي للنظام الخميني يتمثل في «ولاية الفقيه». وطبقا لهذا المبدأ، يملك «المرشد الأعلى» كلمة الفصل في جميع القضايا، الدينية والعادية، بل من حقه تجميد العمل بمبادئ الإسلام إذا رأى أن الحاجة تستدعي ذلك.

عام 2009، أقر «المرشد الأعلى» إعادة انتخاب أحمدي نجاد حتى قبل فرز الأصوات. وبذلك، بقي موسوي وكروبي في مواجهة خيار مؤلم: إما العمل في إطار النظام الخميني وتجرع مرارة إعادة انتخاب أحمدي نجاد، أو رفض الحكم الصادر عن «المرشد الأعلى» والتحول لمناوئين للنظام.

وقد علموا أن الإيرانيين الناشطين سياسيا منقسمون لمعسكرين: ينتمي أولهما لأولئك الآملين في التغيير من داخل النظام، بينما يبغي الآخر تغيير النظام. ويرى أنصار «التغيير من داخل النظام» أن وجود رئيس قوي، مثل موسوي، مدعوم بتأييد شعبي واسع، بمقدوره استعادة مكانة الدولة في مواجهة السلطة الموازية التي يتمتع بها «الفقيه»، وسيجعل من الممكن إقرار الإصلاحات الاجتماعية والسياسية التي يطالب بها الشعب. أما من ينادون بـ«تغيير النظام» فيؤمنون بأن النظام الخميني يستعصي على الإصلاح.

وعليه، فإن الخيار الأكبر هو: التغيير من داخل النظام أو تغيير النظام. وقد حاول موسوي وكروبي تجنب حسم هذا الاختيار لأطول فترة ممكنة. ولبعض الوقت، اقتربا بشدة من رفض النظام، مما أكسبهما تأييدا شعبيا واسعا. إلا أنه سرعان ما أقنعهما خوفهما من خوض المجهول بالتراجع وإعادة التأكيد على «الإيمان بدستور الجمهورية الإسلامية». وتكمن المفارقة في أن سجنهما يأتي في أكثر لحظة ابتعدا خلالها عن فكرة «تغيير النظام».

لذا، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه: لماذا قرر خامنئي سجن اثنين من الرموز التاريخية للنظام الخميني في هذا التوقيت؟ من بين الأسباب خوفه المتزايد من إمكانية وصول موجة الاضطرابات المستشرية بالمنطقة لإيران. في هذه الحالة، قد يعمل موسوي وكروبي كرمزين خلال المرحلة الأولى من الثورة.

من ناحيتها، حرصت القيادة الإيرانية على مراقبة الأحداث التي شهدتها المنطقة خلال الشهرين الماضيين باهتمام بالغ. ولاحظت الغياب الكامل للقضايا الدينية والنبرات المعادية للأجانب، مع التأكيد على المطالب الاجتماعية والسياسية. كما لاحظت أن الشباب المتعلم من الطبقات الوسطى الحضرية شكل العمود الفقري للثورات، بينما بقي من يطلق عليهم «المستضعفين» على الهامش.

واتضح كذلك أن التكتيكات والأساليب التي استخدمها الشباب الثوري تم تجريبها للمرة الأولى في إيران خلال انتفاضات عام 2009 ضد إعادة انتخاب أحمدي نجاد. وربما يكون خامنئي قد خلص إلى أنه حان الوقت لإعادة توحيد الفرق التي لا تزال موالية له. وكان جزء من السبب لتحقيق ذلك الإطاحة بموسوي وكروبي.

إضافة إلى ذلك، يخالج النظام القلق حيال الانتخابات البرلمانية العام المقبل. وقد هدد موسوي وكروبي بمقاطعة الانتخابات، في خطوة قد تقضي على ما تبقى من مصداقية العملية الانتخابية.

ومع وجود موسوي وكروبي في السجن، وعجزهما عن الاتصال بالعالم الخارجي، من الممكن المضي قدما في الانتخابات من دون مواجهة تحد من قبل رموز سابقة بالنظام. إلا أن المشكلة تكمن في أن موسوي وكروبي لم يختفيا تماما من المشهد، وإنما نقلا إلى الأطراف فحسب. وحتى وهما داخل السجن، يبقيان بمثابة شوكة في خصر النظام. لقد ساعد موسوي وكروبي، علاوة على الرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي في توفير سطح بيني قيم لحماية النظام من الصدام مع التيارات الداعية لـ«تغيير النظام».

وهناك مؤشرات حول اتخاذ خامنئي استعدادات للتحرك ضد رفسنجاني وخاتمي أيضا. يذكر أن أهم منصب يحظى به رفسنجاني، وهو رئاسة مجلس الخبراء، على وشك النهاية، ذلك أنه بحلول نهاية مارس (آذار)، سيتم استبداله بآية الله مهدوي كاني. هناك أيضا حديث عن دفعه خارج منصبه الثاني كرئيس لمجلس تشخيص مصلحة النظام.

وقد حاول رفسنجاني استعادة الرضا الرسمي عبر استخدامه المصطلح الديني «فتنة»، في وصف «الحركة الخضراء»، وشدد مجددا على «الطاعة المطلقة» لـ«المرشد الأعلى». ومع ذلك، لا ينبغي أن يفاجأ أحد إذا ما لاقى نفس مصير موسوي وكروبي خلال الأشهر القليلة المقبلة.

أيضا، جرى شن حملة ضد خاتمي، متهمة إياه بالتورط في شتى أنواع المؤامرات الأجنبية. وادعت صحيفة «كيهان» اليومية أن الرئيس السابق حصل على كميات ضخمة من الأموال من دولة مجاورة للمساعدة في الإطاحة بالنظام.

وليس هناك، حتى من بين أولئك الذين لا يحبون خاتمي، من يصدق هذه المزاعم. وعلى الرغم من ذلك، يبقى هناك جزء من النظام على الأقل يمهد الساحة لإلقاء القبض على خاتمي وسجنه.

لقد عمل موسوي وكروبي، وبدرجة أقل رفسنجاني وخاتمي، كحوائط امتصاص للصدمات بالنسبة للنظام. وقد آمنوا بحلم، يصفه البعض بوهم، أن النظام، على الرغم من طابعه الاستبدادي، لا يزال قابلا للإصلاح.

كما ادعى الرجال الأربعة أن المعارضة غير العنيفة لا تزال ممكنة داخل نظام تعامل مع مناوئيه دوما بالعنف. ومن المؤكد أن إزالة الأربعة من المعادلة ستخلف تأثيرين فوريين، أولهما: تشجيع أنصار «تغيير النظام»، وستكون حجتهم بسيطة: أن النظام العاجز عن تقبل النقد الهين من كبار مسؤوليه السابقين من غير المحتمل أن ينصت للانتقادات الأقسى من جانب الجماهير.

جدير بالذكر أن موسوي وكروبي ورافسنجاني وخاتمي لم يطالبوا قط بإجراء أي تغيير كبير مثل تقليص، ناهيك عن إلغاء، سلطات «الفقيه». كما لم يطالبوا بإجراء انتخابات مفتوحة يسمح لجميع المواطنين والأحزاب السياسية بالمشاركة فيها من دون الحصول على موافقة مسبقة من «مجلس صيانة الدستور».

ومن الممكن أن تؤدي إزالة السياسيين الأربعة من المعادلة إلى إضفاء طابع راديكالي أقوى على المعارضة عبر توفير مساحة أكبر أمام الجماعات الداعية للنضال المسلح، الأمر الذي قد يعني الإرهاب.

ويتمثل التأثير الثاني في أن الخطوة الأخيرة من قبل خامنئي ستعمق الصراع على السلطة المشتعل منذ فترة بين الموالين للنظام. والمعروف أن هناك انقسامات داخل الواجهة السياسية للنظام مع تعرض فصيل أحمدي نجاد لضغوط من قبل الفصيل الذي يقوده آية الله صادق لاريجاني، رئيس السلطة القضائية، وتحالف يقوده عمدة طهران محمد باقر قاليباف.

أيضا انقسم الحرس الثوري الإسلامي إلى فرق مع مطالبة أعداد متزايدة من الضباط من الرتب المتوسطة بأن تقصي القوة نفسها عن المشهد السياسي. ومن الممكن أن يؤدي تغييب موسوي وكروبي لتعزيز هذا الموقف.

وعبر حبس موسوي وكروبي، اتضح أن النظام يتحرك انطلاقا من مشاعر الخوف. ويعلم طلاب التاريخ أنه حينما يتحرك حاكم بدافع الخوف تنتهي به الحال إلى خوف أكبر.

لقد حدد مكيافيلي الخوف باعتباره إحدى أداتين للحكم، أما الأخرى فهي الإقناع، لكن ما كان يقصده هو أن يشعر الرعية بالخوف تجاه الحاكم، وليس العكس. في إيران اليوم، يخشى الحاكم أولئك الذين يفترض أنهم رعيتهم.