ثورة على الثورة!

TT

عندما قامت ثورة يوليو (تموز) في مصر، عام 1952، أعلنت مبادئها الستة الشهيرة، ابتداء من إقامة عدالة اجتماعية، ومرورا بالقضاء على الاستعمار وأعوانه، وانتهاء بإقامة حياة ديمقراطية سليمة، ثم إلى سائر المبادئ الستة إلى نهايتها.

وكان من الطبيعي أن تدعو الثورة، في وقتها، ومن خلال مبادئها، إلى تحقيق ما فشل الملك فاروق وآباؤه في تحقيقه قبلها؛ فهي، كثورة، كانت ترى - حين قامت - أن أسرة محمد علي باشا، التي حكمت مصر من عام 1805 إلى عام 1952، لم تنجح في إقامة عدالة اجتماعية حقيقية بين المصريين، وأنها، كثورة أيضا، سوف تحقق هذه العدالة الغائبة.. وكذلك الحال طبعا، مع الاستعمار، ومع الديمقراطية، ومع.. ومع.. إلى آخره!

وربما يكون اللافت للنظر، هنا، أن مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة، كان هو المبدأ السادس في مبادئها، أي المبدأ الأخير، لا الأول ولا حتى الخامس!

ولو أننا تصورنا، الآن، أن الثورة عندما قامت في حينها، قد راحت تعمل وفق معيار الأولويات في مبادئها المعلنة، فإن الطبيعي، والمنطقي، أن تنتهي - أولا - من المبادئ الخمسة، التي تسبق المبدأ السادس، ثم تتفرغ له، إذا ما فرغت مما يسبقه!

ولو أن العكس هو الذي حدث، بمعنى أن يأتي المبدأ السادس أولا، ثم تتلوه المبادئ الخمسة، ما كان هذا هو حالنا، حاليا، في القاهرة، وما كان لثورة الشباب في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أن تقوم أصلا، كما سوف نرى حالا.

فها هو المعنى؟!.. المعنى أن غياب، أو تغييب المبدأ السادس، أدى بطبيعته، إلى إفراغ المبادئ الخمسة التي سبقته، من مضمونها الحقيقي، وأدى إلى أننا في عام 2011، اكتشفنا بعد مرور كل هذه السنين، أننا لا نجحنا في إقامة عدالة اجتماعية، ولا نجحنا في القضاء على احتكار رأس المال، وهو أحد المبادئ، ولا.. ولا.. لا لشيء، إلا لأننا وضعنا مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة، في ذيل الأولويات، وفي آخرها، في حين أن مكانه الحقيقي، كان يجب أن يكون على رأس الأولويات والمبادئ، دون منافس!

وربما لهذا السبب، كتب الروائي المصري الراحل الدكتور خليل حسن خليل، روايته الشهيرة «الوسية» بأجزائها المتعددة، وفيها كان يقول، بشكل أو بآخر، إن «الوسية» التي كانت قائمة قبل الثورة، والتي أدت إلى انعدام إقرار فكرة العدالة الاجتماعية بين المصريين، قد انقلبت بعد الثورة إلى وسايا، مع ما هو معروف من أن «الوسية» هي مساحة الأرض الممتدة، التي يملكها شخص إقطاعي، ثم يرغم الآخرين من الفقراء، على العمل تحت إمرته فيها، على أساس أنه سيد، وأنهم عبيد!

أراد صاحب رواية «الوسية» أن يقول، بوضوح، إن «الوسية» التي كانت قائمة في البلد، قبل ثورة يوليو 52، قد تحولت بعد الثورة، بفعل غياب المبدأ السادس أو تغييبه، لا فرق، إلى وسايا!

ولم تكن الفنانة تحية كاريوكا، هي الأخرى، تبالغ، حين قالت في أعقاب الثورة، إن «فاروق الملك» إذا كان قد ذهب، فإن 12 من «الفواريق» قد جاءوا في مكانه، وكانت تشير إلى 12 ضابطا، كانوا هم أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان كل واحد فيهم، في رأيها، قد تحول إلى «فاروق» جديد!

ولا تعني إقامة حياة ديمقراطية سليمة، والحال كذلك، مجرد إجراء انتخابات بين أكثر من مرشح، لاختبار حاكم للبلد من بينهم، وهو ما لم نعرفه على امتداد 59 عاما، من عمر الثورة، اللهم إلا في عام 2005، حين جرت انتخابات على رئاسة الجمهورية للمرة الأولى بين «مبارك» وآخرين.. وإنما يعني الأمر، أن هناك أدوات في الحياة السياسية، يجب أن تكون فاعلة، ومفعلة، مسبقا، قبل أن يذهب الناخب إلى صندوق الانتخاب.

هذه الأدوات، في ظني، كثيرة، ولكن أهمها في تقديري، ثلاث أدوات، بدءا بالدستور، ومرورا بالبرلمان، وانتهاء بالتعليم!

دستور يضبط علاقة الحاكم بالمحكوم، كما يتعين أن تكون عليه هذه العلاقة، بكل ضوابطها، ثم برلمان يراقب إنفاق المال العام، ويشرع القوانين للناس، وأخيرا نظام تعليم يعرف كيف يدير ثروة المجتمع من البشر!

ولو أننا تأملنا حقيقة هذه الأدوات الثلاث، وهي في يد حسني مبارك طوال 30 عاما، قبل تخليه عن منصبه، يوم 11 فبراير (شباط) الماضي، فسوف يتبين لنا، أنها هي ذاتها، التي كانت في يد عبد الناصر، وهي أيضا التي كانت في يد السادات، دون تغيير في المضمون، وإن تغيرت في الشكل!

فالدستور الذي كان مبارك يحكم به في عام 2011، هو نفسه الدستور الذي وضعه عبد الناصر، مع رفاقه الضباط عام 1956، وقد جرت عليه تعديلات وترقيعات كثيرة، من يومها إلى هذه اللحظة، ولكنه ظل على جوهره ومضمونه، وهو مضمون كان يعطي الحاكم أكثر بكثير مما يمنح المحكوم، وكانت 40 مادة من مواده البالغ عددها 211 مادة، تخص رئيس الجمهورية بسلطات لا مثيل لها في دستور أي دولة متطورة!

وكان آخر برلمان تم تشكيله في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، صورة من برلمانات عبد الناصر، ثم السادات، من حيث طريقة التشكيل نفسها، بمعنى أن عبد الناصر كان قد قرر، منذ وقت مبكر، من عمر الثورة، أن يكون نصف عدد أعضاء البرلمان على الأقل، من بين العمال والفلاحين، وهو مبدأ كان الغرض من ورائه، حين الأخذ به، في أوائل الستينات من القرن الماضي، أن يكون هناك تمثيل بنسبة ما، للعمال والفلاحين في البرلمان، وربما يكون هذا التمثيل قد وقع، لمرة، أو لمرتين، في البداية، غير أننا في النهاية، وفي برلمان 2010، وجدنا أنفسنا أمام لواءات وجنرالات بوليس، يمثلون العمال والفلاحين، في البرلمان، رغم أنهم لا علاقة لهم، لا بالعمال، ولا بالفلاحين!

ثم تكرر الأمر ذاته، مع التعليم، إذ قررت الثورة، في بداياتها، أن تفتح الجامعات أمام الجميع، دون تفرقة، ولا تمييز، ودون مراعاة فكرة «الكيف» لا الكم، في التعليم، فكانت الحصيلة في الآخر أننا وجدنا أنفسنا في كل عام، أمام مئات الآلاف الذين يتخرجون، دون أن تكون أمام أي واحد فيهم، فرصة عمل حقيقية!

وباختصار، فإن مبارك كان يحكم في عام 2011 بدستور عام 1956، وكان يشكل برلمان 2010 وفق الخطوط العريضة التي وضعتها ثورة يوليو لتشكيل البرلمان في عام 1960، وربما قبلها.. وكان مبارك، في عام 2011، يدفع بالملايين إلى المدارس والجامعات، على الأساس نفسه، الذي قرره عبد الناصر، وقررته الثورة، عند قيامها، قبل 59 سنة!

ثورة الشباب في 2011، لم تقم - بالتالي - على حسني مبارك، كما قد يبدو الأمر لأول وهلة، ولكنها قامت على ثورة يوليو 1952، لأن مبادئها عانت من خلل في ترتيبها، منذ البداية، ولأن أدواتها في تحقيق المبادئ تخلفت طويلا عن روح العصر!