في لبنان وليبيا.. إنه الاقتصاد ثم القانون الدولي

TT

«باستطاعتنا التهرب من الحقيقة.. لكننا لا نستطيع التهرب من عواقب الحقيقة» (آين راند)

* صديق عزيز، له خبرة عميقة بالشأن الاقتصادي، قال لي، قبل بضعة أسابيع: إن غالبية التحليلات السياسية حول مستقبل الوضع في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط تستنزف نفسها بلا طائل، وإن قلة قليلة من المحللين تركز في منظورها على الأبعاد الاقتصادية، ودور الاقتصاد في معالجة أزمات محلية مباشرة، كوضع لبنان، أو إقليمية مثل الطريقة المثلى للتعامل مع طموحات إيران التوسعية.. مذهبيا ونوويا.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن أحداث الأسبوعين الأخيرين في ليبيا تدفع المراقب حقا إلى النظر بتعمق إلى ما تسوقه العواصم الغربية من كلام وذرائع حول ما يجب فعله إزاء القمع الدموي الذي يمارسه «اللانظام» الليبي ضد شعبه.. المفترض أنه هو الحاكم. ولعل أخطر ما في هذا الكلام الغربي، على الرغم من الاطمئنان على إخراج الرعايا الغربيين من ليبيا، الإصرار على هدر الوقت، ومقارنة أي سلبيات تدخل مستقبلي في ليبيا بسلبيات التدخل في العراق عام 2003.

لنبدأ بلبنان المقبل على ذكرى «14 آذار»، ذكرى الانتفاضة الشعبية المليونية العربية الأولى، التي نجحت لبضع سنوات في إسقاط النظام الأمني، قبل أن يؤدي الدعم الإقليمي الهائل له إلى إعادته إلى التحكم بالبلاد، مستفيدا من سطوة سلاح حزب الله أولا، والأخطاء التي ارتكبها أهل «انتفاضة 14 آذار» خلال الفترة الفائتة ثانيا، والتواطؤ الفاضح من بعض القوى الدولية ثالثا.

صديقي الخبير الاقتصادي قال لي ما يلي: «عندما باشر رفيق الحريري، رئيس الوزراء الأسبق المغدور، إعادة بناء لبنان بعد الحرب الأهلية الإقليمية المدمرة، كان أول ما عالجه هو الحفاظ على النظام المصرفي ودعمه استقرار الليرة اللبنانية (العملة الوطنية) بعدما كانت تقلباتها تنسف أي جهد اقتصادي فعال. وبعد جهد جهيد مشكور، ربط الليرة بالدولار الأميركي بسعر صرف يبلغ 1500 ليرة للدولار، ولقد كلف ذلك الخزينة اللبنانية مبالغ طائلة هي بعض أسباب العجز في الميزانية. ولا بد من أن يذكر هنا أن الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية كانت لفترة طويلة في حدود الـ40%، وبعد جهد استقر الأمر، وساعد على ذلك تولي شخصيات عالية الكفاءة والنزاهة منصب حاكم مصرف لبنان المركزي».

وتابع صديقي قائلا: «في المخاض السياسي الحالي اختارت الأكثرية البرلمانية الجديدة الرئيس نجيب ميقاتي لتولي رئاسة الحكومة، وهذا خيار ذكي؛ لما لميقاتي من مكانة وصلات بالأسواق المالية العالمية. وفي تصوري أن على قوى «14 آذار» - المعارضة الحالية - الابتعاد عن السلطة اليوم.. وترك قوى «8 آذار» تعالج أمور الحكم والتزاماته، وأهمها الأوضاع الاقتصادية والمالية. فإذا اختار ميقاتي مجابهة المجتمع الدولي - وهذا ما أستبعده - فسيواجه لبنان، ولو بعد حين، ضغوطا اقتصادية ومالية لا طاقة له بتحملها. فلبنان يعيش ويزدهر باقتصاده الحر، وإذا بدأ التضييق فإن أي هزة تتعرض لها الليرة اللبنانية ستكون مواجهتها صعبة، لا بل مستحيلة؛ لأن علينا أن نتذكر أن رواتب الموظفين ومعاشات التقاعد كلها بالليرة اللبنانية، فهل يمكن عندها تصور أي أزمة اجتماعية ستجتاح لبنان؟ ثم هذا، بوجود نجيب ميقاتي، الذي تعمل قوى «8 آذار» - مهما قالت - على إنجاحه، لكن هذا الوضع لن يطول، وقد لا يتجاوز بضعة أشهر؛ فالرعاة الإقليميون لقوى «8 آذار» لهم مصالح مباشرة. إيران - بالذات - تتطلع إلى النظام المصرفي اللبناني كمخرج لها من عزلتها، فهل سيسمح لها بذلك؟ في حين أن سورية لن تتمكن من ضبط شيء إلا بنسبة ضئيلة إذا اختل أمر العملة. أما قوى «8 آذار» فإذا ركبوا رؤوسهم، وأتوا بحكومة تضم أمثال عبد الرحيم مراد وأسامة سعد ووئام وهاب وناصر قنديل ونواب ميشال عون.. فأقل ما ننتظره الخراب، أو التقسيم الفعلي (دي فاكتو)... وعندها سيصبح مصير البلد في علم الغيب». انتهى كلام صديقي.

اليوم لبنان مثل ليبيا في عين العاصفة.

فإذا كانت ملفات الإدانة عند القضاء الدولي تتجمع في كل ساعة وكل يوم مع مواصلة ميليشيا «اللانظام» القذافي قمعها انتفاضة الشعب الليبي - عندما تسمح المصالح الاقتصادية الكبرى بالتحرك، طبعا - فإن «قوى الأمر الواقع» المسلحة فوق الأراضي اللبنانية تتحدى بدورها، علنا، المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.. مطالبة بـ«تجميد» التعاون معها.

تطورات الأسبوع الماضي، لاسيما الإعلان عن أن أربعة وزراء لبنانيين رفضوا التعاون مع مكتب المحقق الدولي، وكلام رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي، الذي نقلته قناة «المنار» (محطة تلفزيون حزب الله) المشكك بصدقية التحقيق، تطورات تضع لبنان، مثل ليبيا، في مواجهة الشرعية الدولية، وتهدد بجعله دولة «مارقة».

من قال إن لا ويلات مشتركة بين البلدين؛ حيث يعربد «جنرال» وميليشيا هنا.. و«عقيد» وميليشيا هناك؟!