الصعود الكارثي لدور المال السياسي

TT

تسييس المال كتسييس الدين. كلاهما مضر لبلدك. لأمنك. لمصلحتك. لدخلك. ورزقك. في غيبة الأنبياء، أدى تسييس الدين إلى تنصيب رجال تنظيمات وأحزاب، لأنفسهم أوصياء على المجتمع، باسم الله والشريعة في المجتمع السني، وباسم «قداسة» الإمام الغائب، و«معصومية» الفقيه النائب، في المجتمع الشيعي.

منذ أربعين عاما، يعيش العرب والمسلمون تحت وابل أمطار ثقافة «إكراهية»، لفرض مشروع سياسي (باسم الدين) شديد التدخل في حياتهم وشؤونهم الشخصية. وفي تربيتهم وثقافتهم. الهدف طيهم على أنفسهم، بمعزل عن العالم والعصر، وصولا إلى فرض «دولة دينية»، وفق تخطيط أولئك الأوصياء «الأتقياء».

كانت النتيجة انشغال العرب والمسلمين بأنفسهم، من دون مشاركة في التقدم الإنساني، يكفيهم منه تلقي أدواته وتطبيقاته التقنية الهائلة، واستخدامها في الترويج لمزيد من الانغلاق على الذات!

النظام العربي، في تصديه للإسلام السياسي والحربي، مارس أساليب مختلفة. دينية. سياسية. أمنية. أدت في النهاية إلى خوفه من مجتمعاته، لعدم قدرته على فرز القوى التي يمكن اعتمادها، في التصدي لـ«قدرية» الحلول الغيبية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية.

هذا الانشغال الرسمي والاجتماعي بالهَمّ الديني وحده، أجّل وعرقل التطوير الاقتصادي. أضرب مثلا بالتسييس الديني لمجتمع غزة. فقد حال دون إقامة اقتصاد متقدم، قادر على مقاومة الحصار والاحتلال.

على الرغم من كل العوائق وأخطاء التجربة، تمكن النظام الخليجي من تحقيق تقدم اجتماعي وصناعي وعمراني، بفضل الليبرالية الاقتصادية. واستخدم تحسن الموارد النفطية، في توفير مكاسب وامتيازات لمجتمعاته، وإطلاق حريتها في العمل الاقتصادي، من دون السماح لرجال «البزنس» بالتورط المباشر في العمل السياسي.

أدت الليبرالية الاقتصادية الخليجية إلى انتقال مركز الثقل السياسي والمادي إلى الخليج العربي، وبالذات إلى السعودية، التي باتت تمارس نفوذا كبيرا في عالمها العربي والعالم. في حين ظل النظام الجمهوري العربي متخلفا على المستويين الاقتصادي والمعيشي، ومعتمدا على المجتمع الخليجي، في توفير ملايين فرص العمل، لعمالته الكثيفة سكانيا.

كانت حرب أكتوبر (1973) فرصة سانحة للنظام الجمهوري، وبالذات مصر وسورية، للتخلص من الاقتصاد الستاليني.

نشأت في كلا البلدين فورة اقتصادية ليبرالية. لكنها كانت طفولية في رأسماليتها، وعشوائية متطفلة في ليبراليتها، بحيث كانت تماما اقتصاد «السداح مداح»، كما وصفها الراحل أحمد بهاء الدين.

مع عولمة الليبرالية الجديدة (الريغانية / الثاتشرية)، شهد الاقتصاد العالمي آفاقا جديدة للتوسع في الثمانينات. لكن كان على النظام الجمهوري العربي أن ينتظر إلى مطلع التسعينات. بمبادرة من الرئيس مبارك، بعد مشاورة ونصيحة من المصارف الدولية، أقدم على تجربة تحرير الاقتصاد المصري. نجله جمال مبارك أعطى دفعا حيويا متحمسا للتجربة، باستقالته من «بانك أوف أميركا»، والتحاقه بأبيه كمستشار وأداة تنفيذية (1995).

تم الإسراع ببيع شركات القطاع العام الخاسرة. سنت قوانين لتشجيع الاستثمار الخليجي والدولي. ظهرت مشاريع زراعية لاستصلاح الأراضي البور. بنيت مجمعات سكنية ضخمة، لإيواء الطبقة الوسطى الجديدة. غير أن التجربة اصطدمت بعوائق مختلفة: ترهل بيروقراطية الجهاز الإداري والإنتاجي (ثمانية ملايين موظف وعامل بأجور منخفضة). اعتراضات من العمال على التسريح العشوائي. عجز التنمية عن تأمين العمل، لنحو مليون شاب كل سنة. ثم الجهاز الأمني القمعي والبوليسي (1.5 مليون شرطي وأمني) الذي قطع صلة النظام بمأساة الشباب، الأمر الذي عرقل إشاعة ليبرالية سياسية، تخدم الليبرالية الاقتصادية.

أستطيع أن أشبه الليبرالية الاقتصادية العربية بالليبرالية الصينية. كلتاهما بلا ليبرالية سياسية. الصين كانت أكثر نجاحا. بثقافة العمل الجاد، وحرية المشروع الاقتصادي، حققت الصين تنمية واسعة. وأغرقت العالم بديمقراطية السلع الرخيصة، مع الاحتفاظ بالوحدة الوطنية، ومكافحة الفساد (إلى درجة إعدام الفاسدين).

بعد سقوط الماركسية، كادت الليبرالية الرأسمالية الروسية تخفق. كان على روسيا أن تنتظر فلاديمير بوتين، لإنقاذها من فساد «معلن» بوريس يلتسين الذي باع القطاع العام، بما فيه المؤسسات النفطية، إلى «الطغمة» اليهودية التي أقرضتها المصارف الغربية، لشراء الشركات الحكومية بسعر التراب. قبل الازدهار، عاش الروس متاعب الانتقال إلى الرأسمالية: بؤس. وشقاء. وحرمان.

عندما امتدت أصابع يهود «البزنس» إلى السياسة، كان سيف بوتين باترا. لا، للمال السياسي. لا لشراء الأحزاب والساسة، تحت ظلال الديمقراطية. الغرب يهاجم بوتين يوميا متباكيا على الديمقراطية، بعدما هرب رجال البزنس اليهود إلى الغرب وإسرائيل. لكن ما زال كبيرهم ميخائيل خودوركوفسكي في قبضة العدالة، منذ عشر سنوات.

من سوء حظ الليبرالية الاقتصادية غياب بوتين عربي. تمحورت الأنظمة حول العائلة، مدعومة بالعشيرة هنا. وبالطائفة هناك. بات الرئيس ضعيفا أمام أبنائه. أصهرته. أخواله. زوجاته.

الزعيم الليبي يدعي أن كل شعبه يحبه.. «حب إيه اللي انت جاي تقول عليه؟!»، ومليون شاب ليبي محروم يسمعون أن كلا من أبنائك قادر على أن يدفع مليون دولار، لمغنية أجنبية تحيي حفلة كيف وطرب له؟!

توسع الخرق مع الصعود الكارثي لدور المال السياسي. التف رجال البزنس حول العائلة. السلطة جاذبة للمال. أخطأ جمال مبارك في إدخال رجال البزنس في «لجنة السياسات» بالحزب. ثم بتوزيرهم بحكومة أحمد نظيف (2004)، من دون انفصالهم، عن شركاتهم. ومن دون تقديم معلومات ذاتية عن وضعهم المالي، قبل التوزير وبعده.

المال ليس باقتنائه، وإنما بكيفية استثماره وإنفاقه. الرشوة باتت ثقافة تقليدية في المجتمع العربي!

نحن - العاديين - ندفع رشوة. وربما نقبل رشوة! العمولة فساد له نتائج مروعة: تدمير أخلاقية العمل الحر والإنتاج المشروع. تعطيل التنمية. تزييف الأرقام عن الربح. والدخل. والضريبة. الفساد يجعل كلفة السلعة الغذائية والاستهلاكية شديدة الوطأة عن جيب الفقير والمتعطل عن العمل. الفساد يفقد الثقة بالحاكم. يقطع صلته بالمحكوم.

هل حقا كل هذا الركام من الفساد الذي تطالعنا به الصحافة المصرية؟! هل هذا الاجتياح والاحتكار الصناعي. العقاري. الزراعي، كان من صنع المال السياسي والقمعي؟! في تجربتي الصحافية الطويلة، بت مشككا بالمستمسكات التي يقدمها نظام جديد عن نظام قديم، لم نسمع رأي مبارك الأب والابن ورجال البزنس، في هذه الأطنان الهائلة من الاتهامات.

أعتقد أن الكلمة الأخيرة في الفساد المالي، ودور المال السياسي، يجب أن تكون لقضاء منزه عن الغرض، قادر على صيانة عدالته من حمى المبالغة. والشائعة. والقول غير المستند إلى وقائع وحقائق. نائب عام واحد لا يكفي. لا بد من هيئة قضائية مستقلة، تملك وحدها سلطة التحقيق. وإصدار الحكم. والعدالة مستحيلة في زمن الانقلابات. والثورات. والانتفاضات.