«غوك تورك».. البعبع الذي يخيف الإسرائيليين

TT

تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية الذي انطلق من اليابسة في دافوس واتسعت رقعته في المياه الإقليمية للمتوسط العام المنصرم وصل إلى الفضاء الخارجي هذه المرة. قرار تركيا توسيع رقعة التمدد باتجاه الفضاء الخارجي كان قد أخذ مكانه على الروزنامة العسكرية التركية قبل عشر سنوات، أما قرار إطلاق «غوك تورك» أول قمر صناعي يعمل لحساب تركيا وحدها ابتداء من عام 2013 ويحمل اسم أول دولة تركية في التاريخ فقد صدر عام 2005 ليقلق الإسرائيليين ويفزعهم لأكثر من سبب.

النقلة التركية هذه تتجاوز حدود المنافسة التجارية والإعلامية والعلمية وتطال مباشرة مسائل الرصد والاستكشاف العسكري والاستخباراتي في منطقة جغرافية واسعة تشمل أجزاء من أوروبا الشرقية والغربية ومناطق في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط بأكمله كما فهمنا. وربما هذا هو سبب غضب إسرائيل التي تتمتع حتى الساعة بتقدمها على دول المنطقة في هذا المجال، كونه يحولها هي الأخرى إلى الجلوس تحت المجهر ويحرمها من فرصة التفوق الاستراتيجي الإقليمي الهام في الرصد والاستطلاع القريبين وبالتالي حظوظ المباغتة في أي عملية عسكرية محدودة كانت أم شاملة.

تل أبيب التي تعتبر التحرك التركي الجديد هذا تهديدا مباشرا لأمنها الوطني ولتحركاتها العسكرية وللخطوط الحمراء الأميركية المرسومة منذ عام 1997 والتي وقفت دائما كحجر عثرة في طريق أي نشاط فضائي من هذا النوع يطال إسرائيل خصوصا من قبل دول المنطقة، تحاول منذ أشهر إعاقة البرنامج التركي وتجميده بعدما كانت في مقدمة الدول التي شاركت في المناقصة العالمية للمشروع لكنها أجبرت على الانسحاب في اللحظة الأخيرة بعدما رفضت أنقرة شروطها بعدم استخدام هذا القمر الصناعي فوق أراضيها وبما يهدد أمن إسرائيل وتفوقها.

«غوك تورك» يحمل كما هو مؤكد أكثر من ميزة استراتيجية وأمنية واستخباراتية فهو أولا يعزز رقعة الانتشار والنفوذ التركي ويدفع بالإسرائيليين للقلق والخوف بسبب الجوانب التقنية العالية للقمر الصناعي هذا وقدرته الكبيرة على تحديد المجسمات والأهداف في حدود المترين. أما ميزة المشروع الثانية فهي أنه سينقذ تركيا من المحاصرة الإسرائيلية كما هو الحال اليوم عبر تحركها تحت رحمة طائرات الرصد والاستطلاع الإسرائيلية التي تتحرك دون طيار والتي باعت العشرات منها إلى الجيش التركي يستخدمها في مواجهاته مع قوات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وجنوب شرقي تركيا. هذا إلى جانب كون القمر الصناعي سيقدم لتركيا دون شك خدمات تقنية وعلمية واسعة أكثر من 60 ألف صورة خلال عام واحد في مجالات البيئة والكوارث الطبيعية والإعمار غير المشروع والرصد العلمي.

إسرائيل التي حصلت مؤخرا على فرصة ثمينة في عرقلة المشروع عندما تقدمت الشركة الإيطالية التي تشرف عليه بطلب شراء كاميرات ومعدات تصوير بتكنولوجيا إسرائيلية يحملها القمر الصناعي التركي فكان ردها التذكير بمطالبها وشروطها الأساسية بعدم استهدافها تكنولوجيا مما أغضب أردوغان الذي ردد أن البدائل كثيرة والأسواق العالمية مفتوحة أمامنا لتأمين احتياجاتنا مذكرا إسرائيل من غير أن يسميها «أنكم رصدتم تحركاتنا لسنوات وعقود طويلة والآن حان دورنا، أين مبدأ المتقابلية في العلاقات الدولية؟».

من المؤكد أن تل أبيب لن تستسلم وتتراجع بمثل هذه السهولة عن هدفها الأساسي بوقف هذا المشروع، فهي ستطارد - عبر لوبيها القوي في إيطاليا وفرنسا - الشركات التي تدير هذا العمل وستحاول الضغط عليها للتراجع عن تسليم أنقرة ما تريد بعد عامين مقابل 600 مليون دولار لقمر صناعي يبقى في الخدمة لسبع سنوات فقط، لكنه قبل أن يحمل تركيا إلى الفضاء الخارجي يحملها إلى صلب المعادلات الاستراتيجية في المنطقة.

بقي أن نقول إن أكثر ما يقلق حكومة نتنياهو ربما هو أن تتقاسم أنقرة المعلومات العسكرية والأمنية التي تحصل عليها مع البلدان العربية والإسلامية خصوصا التي ما زالت منها في حالة حرب مع إسرائيل. وإنه حتى ولو نجحت تل أبيب في عرقلة المشروع التركي هذا بشكل أو بآخر فهي ستكون مهددة في السنوات المقبلة بمشاريع مشابهة يردد الأتراك أنها ستكون بصناعة وطنية هذه المرة وستحمل اسم «غوك تورك 2» و«غوك تورك 3» ولن يكون هناك أي تراجع عن قرار قومي استراتيجي من هذا النوع.

تركيا تقرر يوما بعد آخر توسيع رقعة الاستقلالية والابتعاد عن تمسكها بخيارات الـلاحول ولا قوة التي يرسمها ويحددها الغرب منذ عشرات السنين.. فهل سيكون لها ما تريد من التغريد خارج السرب في مسائل حساسة ودقيقة من هذا النوع تخولها قلب المعادلات عبر اختراق القلب الإسرائيلي؟