الروليت الروسي: من اليابان إلى إيران

TT

«آسيا تواجه انهيارا نوويا» و«آسيا تجابه تسرب إشعاع نووي» - تلك كانت العناوين الرئيسية التي هيمنت على عناوين الأخبار الدولية في أعقاب كوارث الزلزال والتسونامي التي ضربت اليابان.

ولم يكن الزلزال الذي ضرب اليابان الأسبوع الماضي الأول من نوعه، فهي بلاد تعاني من أكثر من 8 آلاف هزة أرضية سنويا. وقد اعتادت اليابان على الزلازل لدرجة أن الاستعداد لها بات جزءا من المنهج التعليمي للتلاميذ بداية من سن الـ12. منذ 8 سنوات فقط ضرب زلزال قوي قلب الأرخبيل الرئيسي في اليابان، مخلفا وراءه دمارا لم يتم التخلص من آثاره نهائيا حتى العام الماضي. وعليه، فإن التساؤل القائم الآن: ما السر وراء اجتذاب الزلزال الذي وقع الأسبوع الماضي، وهو الأكثر قوة من بين الزلازل المسجلة حتى الآن، هذا القدر من الاهتمام غير المسبوق؟

الإجابة تكمن ببساطة في البعد النووي للكارثة.

لقد ترك الزلزال الأخير، الذي أثار أيضا التسونامي، تداعيات على الكثير من مفاعلات الطاقة النووية الواقعة إلى شمال شرقي البلاد. وتسببت الأضرار، التي أصابت 3 مفاعلات نووية على الأقل داخل منشأة الطاقة في فوكوشيما في داي إتشي، في وقوع تفجيرات أطلقت بدورها إشعاعات غير معلوم على وجه التحديد شدتها.

خوف اليابانيين من التفجيرات النووية لا يثير الدهشة، لكن المثير هو الخوف الذي أثارته الأنباء الواردة من اليابان في قلوب الكثيرين على بعد أميال. على سبيل المثال، ذكرت وكالة الأنباء الألمانية أن الناس هرعوا إلى الصيدليات لشراء أقراص من المفترض أنها قادرة على صد الإشعاع الذري.

يعود جزء من الذعر الذي تثيره التقنية النووية إلى الخوف غير العقلاني الناشئ عن المجهول. وتكمن الحقيقة في أننا نجهل كيفية السيطرة الكاملة على «الجني» النووي. وبمجرد خروج هذا الجني من المصباح، يصبح بإمكانه فعل أشياء لا نزال عاجزين عن التصدي لها. ورغم مرور 66 عاما على قصف هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية، لا يزال الإشعاع النووي يحصد أرواح عشرات اليابانيين سنويا.

والواضح أن «الجني» النووي يخلب ألبابنا ويثير الرهبة في نفوسنا في الوقت ذاته.

بالنسبة للكثيرين، يتمثل رد الفعل الأمثل للمجهول في قتله. لذلك يكرس الملايين من الناس من شتى الجنسيات حياتهم لتنظيم حملات ضد الطاقة النووية.

اليوم، من المحتمل أن يطالبوا بأنه إذا كانت حتى دولة متقدمة مثل اليابان عاجزة عن ضمان سلامة الصناعة النووية، فما الذي ينبغي أن ينتظره المرء عندما تقع الطاقة النووية في أيدي الدول الأقل تقدما؟

وتكمن أحد الأمثلة في المفاعل النووي الإيراني سيئ الحظ الذي تحاول إيران بناءه في بوشهر منذ عام 1973. وقصة هذا المفاعل معروفة للغاية لدرجة تجعل من غير الضروري إعادة سردها.

إن ما يهم الآن أن مفاعل بوشهر النووي، مثل المفاعلات اليابانية، فوق حزام نشط للزلازل، وبالتالي فإنه عرضة للأخطار ذاتها. وقد وقع الاختيار على هذا الموقع عام 1973، ويخص قرية هيليه التي دمرها زلزال قبل ذلك بعقد. وادعت شركة «سيمنز» الألمانية، التي تولت تصميم المفاعل والإشراف على بنائه حتى عام 1979، أن المفاعلات محمية ضد الزلازل التي بقوة تصل إلى 7 درجات على مقياس ريشتر.

في ذلك الوقت، كان يسود اعتقاد بأنه من غير الممكن حدوث زلزال في إيران يتجاوز في قوته هذا المعدل، وأكدت الزلازل المسجلة منذ خمسينات القرن الماضي وجهة النظر تلك.

كما أن اليابانيين اعتمدوا على الفرضية ذاتها عند تشييد مفاعلاتهم النووية في داي إتشي ودايني. إلا أن زلزال الأسبوع الماضي الذي ضرب البلاد بلغت قوته قرابة 9 درجات.

لذا، من الحمق القول بأن مفاعل هيليه سيكون بمأمن في مواجهة الزلازل الأعلى من حيث القوة. إن عدم حدوث زلازل تفوق قوتها 7 درجات على مقياس ريشتر في بوشهر حتى الآن لا يعني أننا على يقين من أن ذلك لن يحدث مطلقا.

في الواقع، على امتداد الأعوام الـ30 الماضية، سلط تقريران صدرا عن قسم علوم فيزياء الأرض بجامعة طهران الضوء على هذا الخطر، بل ويقف مفاعل هيليه في مواجهة الخطر لأسباب أخرى إضافية.

إن المفاعلات النووية جرى تأمينها بالاعتماد على نظام مزدوج للغلاف الخارجي، مع وجود حاوية من الصلب غير القابل للصدأ تحيطها أخرى من الإسمنت. أما المفاعلات الموجودة بالمنشأة الإيرانية فلا تضم سوى غلاف واحد، طبقا للصورة التي أعيد تصميمها عليها من جانب نفس الشركة الروسية التي صممت مفاعل تشرنوبيل.

كما أن المفاعلات النووية بنيت قريبا من أكبر محيطات العالم التي تتمتع بالقدرة على امتصاص أي تلوث نووي. أم المفاعل النووي الإيراني فبني على الخليج مباشرة، وهو كيان مائي ضحل لا يتجاوز متوسط العمق به 90 مترا. ويستغرق الأمر في المتوسط 16 عاما كي يتمكن من تجديد مياهه بصورة كاملة.

حال وقوع تلوث بسبب المنشأة النووية في بوشهر، فإنه سيتطلب وقتا أطول كثيرا كي تتمكن الطبيعة من امتصاصه. وقد يخلف ذلك التلوث تأثير مدمر على حياة ما يقدر بـ30 مليون نسمة يعيشون بالقرب من ساحل الخليج.

ليس من حق أحد التشكيك في حق طهران تطوير صناعة الطاقة النووية، رغم أن هذا الأمر يفتقر إلى المنطق من المنظور الاقتصادي. لكن الشعب الإيراني وجيرانه، ناهيك عن المجتمع الدولي ككل، له الحق ويتحمل مسؤولية ضرورة المطالبة بأن تؤخذ إمكانية وقوع تلوث نووي في الاعتبار، وأن يتم التعامل مع هذه المسألة على نحو مناسب قبل الشروع في تشغيل المفاعل.

في أعقاب كارثة اليابان، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها تدرس مجموعة جديدة من إجراءات السلامة، خاصة فيما يتصل بالزلازل. كما تعمل حاليا على تشديد القواعد المرتبطة بالشفافية فيما يخص الإبلاغ عن الحوادث التي تقع بالمنشآت النووية. أيضا، تجري دراسة إقرار نظام جديد لإجراء مزيد من أعمال التفتيش الدقيقة.

المؤكد أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تملك سلطة للتدخل في الشؤون المرتبطة بالسيادة الوطنية. إلا أن الكوارث النووية يكاد يكون من المستحيل احتواؤها داخل الحدود الوطنية. مثلا، حال الفشل في احتواء الكارثة النووية اليابانية، فإنها قد تؤثر على الولايات المتحدة والكوريتين وروسيا والصين، بجانب دول أخرى. وقد يؤثر تلوث نووي من منشأة بوشهر ليس على إيران فحسب، وإنما 7 دول أخرى على ساحل الخليج، علاوة على باكستان وأفغانستان.

إن كارثة اليابان سلطت الأضواء على مبدأ الحذر، وتذكرنا بأن خوض مخاطر لا داعي لها سعيا وراء مجد زائف سياسة رديئة، على أفضل تقدير. إن بناء مفاعلات نووية بمناطق زلازل بإيران يعد نتاجا لخوض روسيا لعبة روليت بالمنطقة. لقد كانت هذه الخطوة في اتجاه معاكس لما يستلزمه الحذر، وقد اتخذها الشاه، ولا يزال الملالي مصرين عليها.