بطاقة حمراء للانقسام على الساحة الفلسطينية

TT

تمر قضيتنا وكينونتنا الفلسطينية بانعطافة عميقة وخطيرة للغاية، تهدد مستقبلها وتمس كل ما يتصل بالوجود الفلسطيني، وتشوه تاريخه وصموده ومقاومته، وتعقّد حاضره، وتضيف إلى معاناته والأخطار التي تحدق به، تحديات ومآزق جديدة.

إن حالة الانقسام التي طفت على السطح، وكانت بمثابة نتوء هجين في سياق التقاليد الوطنية والنضال المشترك، تدعونا جميعا للوقوف عند مسؤولياتنا الوطنية والدفاع عن ثوابتنا المشتركة، لاجتثاث الفرقة التي «ما لها من قرار».

فقد تقاسمنا النزيف والرغيف والدمع والأوجاع في سبيل توحيد الصف، والدفاع عن المصير المشترك، والصمود في وجه الاحتلال وفظاعاته، الذي لم يفرق في بطشه بين ألواننا واجتهاداتنا ومنطلقاتنا.

إن تاريخنا الواحد، وهمّنا المشترك، وأولوياتنا المتآلفة، ومساعينا المستمرة للخلاص، طريق لا يقود إلا إلى هدف وحيد، وإن اختلف بصياغاته وآلياته وتشكيلاته وتفاصيله، وهو: إنهاء الاحتلال، والحفاظ على الثوابت الوطنية، والصمود في وجه مساعي التهويد والتذويب والإلغاء، والوحدة لكل فئات الشعب وفصائله واجتهاداته.

ووقوفا عند واجبنا الوطني، وحرصا على شخصيتنا الوطنية المهددة في لحمها الحي، ووفاء لنضالاتنا وتضحياتنا، نقدم رؤية للمصالحة الفلسطينية، تنقلنا من دوائر التشظي ومفرداته وتبعاته الخطيرة على مشروعنا الوجودي، إلى حالة الوحدة الشاملة التي لن يترجم نضالنا إلا بتحقيقها، وتحويلها إلى ممارسة تطبيقية في سلوكنا السياسي وثقافتنا الوطنية المصابة في فرقتها الراهنة.

فاستمرار حالة التفتت تضعف وجودنا، وتخدم عدونا المشترك، وتضاعف بطش الاحتلال بنا، وتزيد من الضغوط والتدخلات الخارجية، وتشق الصف، وتشتت الجهد، وتنتج ثقافة التشظّي والتباعد، وتفسح المجال لابتزازنا، وبالتالي تفرغ النضال الوطني من مضمونه، وتلوّث شعبنا ووجعه، وتبدد الحلم الوطني في أتون عاصفة هوجاء لن تبقي ولن تذر.

وعليه، فإن إجراء مصالحة شاملة وعاجلة، يجب أن ينطلق من ثلاثة مبادئ رئيسة، تتمثل في:

- إنهاء الانقسام ووقف حالة الفرقة التي تتعمق يوميا.

- رفع الحصار الظالم عن أبناء شعبنا في غزة هاشم وفتح المعابر شمالا وجنوبا.

- انتزاع اعتراف وقبول إقليمي ودولي بالنظام الفلسطيني السياسي الجديد الذي ستفرزه المصالحة.

وإننا متأكدون من أن الاختلافات في الاجتهادات وتبيان التفاصيل، لن ترقى، بأي حال من الأحوال، إلى خلاف على وحدة الهدف بين أبناء الدم الواحد، الذين تقاسموا الدمع والدم، وصنعوا الأمل وغرسوه في الناس.

فعناصر وحدتنا الحتمية تنسجها وحدة الوطن المهدد والمحاصر بالاحتلال والمعازل، وتحرسها سواعد أبناء شعبنا وماجداته، وتسهر عليها قيادتنا الوطنية الموحدة، وتمدها وحدة القضية بوقود حياتها وضمان استمرارها، وتصونها المرجعيات الوطنية المتفق عليها.

وتشكل هذه العناصر صمام الأمان لانتزاع القبول الدولي والإقليمي، للتفرغ لنضالنا الوطني ولدحر أطول احتلال في التاريخ الحديث، عن أرضنا ومقدساتنا وسمائنا ومياهنا وهوائنا. بموازاة استثمارنا لموجة الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية كاملة السيادة على حدود أرضنا السليبة عام 1967.

إن القواعد التي يمكن أن يتحقق عبرها التلاحم الوطني، ينبغي أن تكون محكومة بمجموعة من القواعد.

أولها: برنامج سياسي ركيزته الرئيسة النضال لأجل دولة فلسطينية حرة مستقلة، كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، تكون جزءا من العمق العربي والتكوين الإنساني، وتعتبر أحد عناصر تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي. مع الحفاظ على الثوابت والتمسك بالإجماع الوطني في قضايا اللاجئين وحقوقهم المشروعة وفق القرار الأممي (194).

فيما تشكل المقاومة ضلع القاعدة الثاني، باعتبار أن المقاومة المشروعة بكافة الوسائل التي أقرتها الشرائع والمواثيق الدولية للخلاص من الاحتلال هي حق لا يمكن وسمه بالإرهاب والتطرف، وهي الضمان لانتزاع الاستقلال ودحر الاحتلال. ولا يتعارض النضال المشروع والمقاومة الواجبة مع إعلان المرحلة القادمة، يتألق فيه النضال الشعبي الذي يعترف بخلل موازين القوة لصالح الاحتلال، ويسعى إلى إسقاط الدعم الدولي الآلي للاحتلال، ويمنح العالم أجمع، فرصة لإثبات جدّيته في الاعتراف بكياننا السياسي الحرّ والمستقل، دون اشتراطات، إلا بشرط الشرعية الدولية التي تنكر الاحتلال وتعتبره خروجا على القرارات والمواثيق، التي لا تجيز احتلال أرض الغير بالقوة، ولا تسمح لأحد بالتدخل في سيادة الدولة الكاملة وحريتها.

وتأتي ركيزة السلاح والتشكيلات الأمنية في الركن الثالث لقواعد التلاحم الوطني، وهذا يعني بشكل لا يقبل التأويل: سلاح واحد، وقانون موحد لقوى الأمن، ورجل أمن واحد، وخضوع الأجهزة الأمنية ومهامها وتركيبتها وسائر تفاصيلها، لمعايير وطنية موحدة ومهنية وعقيدة أمنية وطنية متفق عليها بعيدا عن المحاصصة والفئوية والمصالح الصغيرة.

فيما تعد الشراكة السياسية المكون الرابع لضمانات إحلال المصالحة، عبر إخضاع هذا التآلف والتوحد، محكوما بإجراء انتخابات ديمقراطية وشفافة، متفق عليها، تخضع لرقابة دولية، تفرز حجم التكوينات الوطنية جميعا، وتمنح كل ذي قاعدة شعبية حقه بالتمثيل السياسي، على أسس ديمقراطية، ويوقّع المشاركون فيها على وثيقة احترام نتائجها أيا كانت، ويناضل الجميع لإجبار العالم وتشكيلاته على الاعتراف والقبول بإفرازاتها، قبل إجرائها. وختاما، فإن هذه الرؤية تنتظر من أبناء شعبنا بكل فئاته ومواقعه، الإسراع في دعمها، عبر أولا تنقية الأجواء، وتخفيف الحرب الإعلامية وتبادل الاتهامات، والقيام بخطوات ملموسة من شأنها إعادة الثقة، ونزع فتيل استمرار التشظي الأسود الذي لم ولن يخدم سوى أعداء الشعب والوطن والتاريخ والنضال والتضحيات.

* عضو اللجنة المركزية لحركة فتح