النخبة المصرية والعجز عن توقع الخير

TT

مساء اليوم تعلن نتيجة الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية التي جرت بالأمس، وعلى الأرجح ستكون النتيجة نعم بنسبة كبيرة، على الرغم من تبني النخبة المصرية لـ«لا» قوية روجوا لها في الجرائد والفضائيات، كما قاموا بحملة إعلانية تجارية مدفوعة لعدة أيام على الصفحة الأخيرة في عدد من الجرائد اليومية واسعة الانتشار، حيث ترى عددا من نجوم المجتمع في الفن والسياسة والدعاة الدينيين ينظرون إليك بابتسامة عذبة ويزفون إليك النبأ العظيم «هنقول لأ».. هذه الإعلانات دفعتني إلى التفكير في مغزاها. أنا أفهم أن ينفق بعض المرشحين مئات الألوف وربما الملايين من الجنيهات المصرية على حملاتهم الانتخابية بهدف الحصول على مكانة سياسية واجتماعية مرموقة، وربما فلوسية أيضا، لكني عاجز عن معرفة السبب الذي يدفع شخصا ما لدفع هذه الأموال من أجل أن تكون نتيجة الاستفتاء هي: لا للتعديلات الدستورية.

لقد استمعت جيدا لكل الأسباب التي يعرضها «اللائيون» شرحا لموقفهم، ومنها «لقد سقط الدستور بثورة 25 يناير، فكيف نوافق على تعديلات في دستور ليس له وجود؟.. وإذا وافقنا على هذه التعديلات فمعنى ذلك أننا سنعود لوضعنا القديم، وعندما ندخل الانتخابات طبقا لهذه التعديلات ستأتينا جماعة الإخوان وجماعة الحزب الوطني، ويحكمنا ديكتاتور جديد. لماذا العجلة؟.. علينا أن نطهو دستورنا الجديد على مهل، ولتحدث الانتخابات بعد سنة.. اثنتين.. لماذا العجلة والتسرع؟».

إنها حجج مقنعة بالفعل لأنها تستخدم المنطق الصوري الأرسطي المخادع في الوقت الذي يتعلق فيه الأمر بالاستقراء ومعرفة الحقائق على الأرض وما يفكر فيه المصريون. أضف إلى ذلك عنصر الوعي الجمعي عند المصريين بتجاربهم الطويلة. وفي توقعي لنتيجة الاستفتاء بنعم، لم أستند في حساباتي إلى كل هذه العناصر، بل إلى عنصر آخر أكثر أهمية وهو اللاوعي الجمعي عند المصريين الذي يحتم توقع الخير. أريدك أن تلاحظ أنه عندما يحدث حادث بسيط ككسر كوب مثلا، أو سقوط شيء على الأرض وتحطمه، فعلى الفور يقول الناس «خير.. خير.. خدت الشر وراحت». أما عندما تصاب إصابة في حادث لا تقعدك عن الحركة والنشاط، فستجد من يقول لك «اللي ييجي في الريش.. بقشيش»، أي إن نجاتك من الحادث هي مكافأة، بقشيش من السماء أنعمت به على طائر. إنها القدرة على توقع الخير التي هي جزء من القابلية لصنعه.

أنا أعتقد أن النخبة المصرية التي نراها في الصحف والفضائيات ما زالت تقول لا لسلطة لم يعد لها وجود. وما يطلبه هؤلاء بالتحديد سيترتب عليه فقط إدامة فترة انعدام الفعل العام في مصر بما يؤدي إليه ذلك من وقف الحال الذي هو حالنا الآن. هي باختصار نخبة حتمت الأيام عزلتها، فاستراحت لذلك ونامت هانئة تحت لحاف دافئ هو فكرة أنها تقود هذا الشعب. شعبنا عندما يتطلع لحدوث شيء يحمل له الخير يوم الأحد، لا ينتظره ساكنا بغير فعل، بل يقول «قدم السبت.. تلاقي الأحد قدامك». لا بد أن تقدم شيئا يوم السبت كشرط لحصولك على ما تطلبه يوم الأحد. وهو أيضا عندما يقع في مشكلة محيرة ثم يظهر له جزء من الحل يقول على الفور «مشّي.. مشّي»، أي أدر عجلة الأمور.. لا تضع العصي في الدواليب.. وهو أيضا يصف أصحاب التفكير «اللائي» بأن عندهم القدرة على إيقاف المراكب السائرة، وهو تشبيه عبقري، لأن المراكب الشراعية منها والحديثة عاجزة عن التوقف إلا بعد مناورات طويلة.. ومع ذلك يرى المثل الشعبي أن هناك من هو قادر على إيقافها.

هذا المساء يعتبر نقطة فاصلة في حياتي العملية، لأن النتيجة إذا جاءت بعكس توقعاتي وصوت الشعب بكلمة لا، فسأتوقف على الفور عن كتابة أي شيء له صلة بالسياسة أو المجتمع أو آليات التفكير عند البشر، وأنضم على الفور لهذه النخبة، وأطلب منها السماح والمغفرة، ثم أتفرغ لرواية الحواديت والنكات، ومنها النكتة التالية من أربعينات القرن الماضي:

«أحد المثقفين كان يسير ليلا وسط الحقول، فتعطلت سيارته، وكان من الواضح أن العطل بسبب دورة الوقود. لم تكن معه عدة يكشف بها عن ماسورة البنزين القادمة من التنك أو الذاهبة إلى الكاربراتير، وعلى بعد لمح فيللا أنيقة ينبعث منها الضوء. أغلق أبواب السيارة ومشى في اتجاه الفيللا وهو يفكر في (التوقعات): سأضرب جرس الفيللا.. لن يرد علي أحد.. مرة أخرى سأضرب الجرس في إلحاح.. سيخرج لي رجل عجوز ملامحه شريرة ويقول لي بغلظة: نعم.. أفندم.. انت مين وعاوز إيه؟ ويدور بيننا الحوار التالي:

- أنا فلان عابر سبيل، تعطلت سيارتي بالقرب منك.

- حضرتك شايفني معلق يافطة ميكانيكي؟ عاوزني أعمل لك إيه؟

- يعني لو سمحت لي أتكلم من عندك في التليفون.

- التليفون عطلان.

- طيب ممكن حد من عند حضرتك لو سمحت يساعدني نزق العربية لحد هنا وأروح أنا أدور على ميكانيكي؟

- أنا عارف عربيتك فيها إيه؟.. مش جايز فيها مصيبة.. سلاح واللا مخدرات!

- طب بلاش.. ممكن الغفير بتاع حضرتك يحط عينيه عليها من بعيد؟

- ماعنديش غفير.. ولا عندي بواب.. عاوز حاجة تاني؟

استمر هذا النوع من الحوار المتشائم النكد يدور في عقله وهو يزداد غضبا وإحباطا إلى أن وصل إلى باب الفيللا فضرب جرس الباب فخرج له رجل عجوز وقال له بابتسامة عريضة: أهلا وسهلا.. تحت أمرك.. اتفضل.. أي خدمة؟

وهنا وجه صاحبنا لكمة هائلة إلى وجهه وهو يقول: مش عاوز حاجة من وجهك العكر».

ربما يظهر في حياتك عشرات البشر يمنعون عنك الخير، ويمنعونك من صنع الخير، لكن ذلك يجب ألا يدفعك إلى اعتناق فكرة أن الشر هو المحرك لأفعال البشر جميعا. الديكتاتورية لا تأتي بها الدساتير ولا تعديلاتها.. الديكتاتورية تحدث بدافع من القبول العام بها. وحتى عندما تنتخب رئيسا جديدا يعدك بالحرية والديمقراطية ثم يظهر له بعد أيام أو شهور عفريت يركبه ويقنعه بغير ذلك، فعليك أن تتحمل هذه المأساة لمدة أربعة أعوام فقط، ثم تلجأ إلى إزالته هو وعفاريته جميعا بواسطة صندوق الاقتراع.

إن أهم تعديل وصلنا إليه هو أن رئيس الدولة من حقه أن يحكم لمدتين فقط، وإذا تمكن أي رئيس في قادم الأيام من تعديل هذه المادة مرة أخرى لمدد أخرى، فلا بد أننا نستحق ما سيحدث لنا من شر، وأن الديكتاتورية بالفعل تليق بنا.