شبر شبر.. بيت بيت.. دار دار.. زنقة زنقة.. فرد فرد!

TT

من خلال كل خطاب يطلقه، يوفر القذافي مادة نموذجية لكل صحافي. وقد سبق أن قيل إن الملك ميداس كانت لديه القدرة على تحويل كل ما يلمسه إلى ذهب!

وعلى الرغم من ذلك، مات الملك بسبب الجوع، فحينما تراوده الرغبة في تناول الطعام، بمجرد أن يلمس أي طعام كان يتحول إلى ذهب. لقد كانت معجزة خطيرة.

بالنسبة للقذافي، فهو مخلوق غريب، ذلك أن كل كلمة يتفوه بها تنتهي بها الحال إلى مزحة، وليس مزحة عادية فحسب، وإنما مزحة تثير الضحك لحد البكاء. في الواقع، إنها مزحات مؤلمة للغاية. وكما قالوا قديما، فإن شر البلية ما يضحك!

إن القذافي حتى عاجز عن الحفاظ على سيطرته على مدن ليبية، ويخسر باستمرار سيطرته على مدينة تلو الأخرى لصالح المعارضة، ناهيك عن تهديده بتفتيش «بيت بيت، زنقة زنقة». بوجه عام، هناك مواجهة كبرى بين أمرين؛ أولهما حلم القذافي، وثانيهما، الواقع القائم على الأرض في ليبيا.

وإذا ركزنا على اللفظ الذي يستخدمه القذافي، وهو أنه يريد «تطهير» ليبيا، ندرك أن هذا اللفظ يستخدم من منظور أمني أو عسكري، بمعنى أنه ينظر إلى ليبيا من منظور أمني أو عسكري.

وأعتقد أن هذه هي مشكلة الحكم الكبرى في غالبية الدول الإسلامية والشرقية، أن القادة يأتون من الجيش ويحيط بهم رجال الأمن. وتملك قوات الأمن بهذه الدول القول الفصل في القضايا.

مؤخرا، سأل أحد أعضاء البرلمان الأردني رئيس وزراء البلاد، معروف سليمان البخيت: «هل تتلقى قوات الأمن أوامرها منك، أم أنت الذي تتلقى الأوامر منها؟». وهذا قطعا سؤال محوري. في مصر، عندما اقتحم أفراد من الشعب مقار قوات الأمن، عثروا على كثير من الوثائق والأدلة تشير إلى أن غالبية عمداء الجامعات ورؤساء الصحف ووسائل الإعلام وأئمة المساجد كان يجري تعيينهم من جانب قوات الأمن.

وقد أخبرني مدير السفارة الإيرانية في القاهرة ذات مرة أنه لا يستطيع الاتصال بطهران أو إيران مباشرة عبر الهاتف، لأن رقم صفر في الهاتف يخضع لقيود! وخلال لقائه الرئيس مبارك، طلب السفير حل المشكلة. وحينها، سأل مبارك، بينما كان يضحك، حول ما إذا كان هذا الأمر مزحة. وعندما أجاب السفير بالنفي، مؤكدا أنها مشكلة خطيرة، أمر مبارك عمر سليمان، الذي كان حاضرا اللقاء، بحل المشكلة. وأخبرني السفير أن سليمان لم يفعل أي شيء لحل المشكلة!

عادة ما تميل قوات الأمن لإضفاء جو عام شديد الخصوصية حول القادة والرؤساء والملوك، فهم يسيطرون على عقول القادة عبر إمدادهم بتقارير شديدة التنظيم تدفع القادة للاعتقاد بأن قوات الأمن هي أكثر المجموعات ولاء واستحقاقا للثقة من بين تلك المحيطة بهم، بينما يقف جميع السياسيين والفنانين والكتاب وكل هذه المجموعات الأخرى ضده. ويعني ذلك أن قوات الأمن تعمد لخلق قفص شديد الضيق حول الحاكم.

كل صباح، يبدأ الحاكم يومه بقراءة هذه التقارير، وكل يوم يكون على موعد لمقابلة رئيس قوات الأمن، أو نوابه. وخطوة بعد خطوة، تتغير لغة الخطاب التي يستخدمها الحاكم، ويزداد شبهها بخطاب قوات الأمن. ويبدأ في رؤية القضايا من منظور قوات الأمن. ومن هنا، تبدأ الكارثة! وأرى أن على المسؤولين داخل الدول الإسلامية النظر إلى القضايا والحكم عليها من زاوية اجتماعية وثقافية، وليست أمنية.

ودعوني أضرب مثالا، داخل مجلس وزراء الجنرال ديغول، كان مقعد أندريه مالرو على يمين الرئيس، مما أثار غيرة شديدة في نفوس وزراء الشؤون الخارجية والداخلية والدفاع. وذات مرة، سألوا الرئيس ديغول: «لماذا تجلس أندريه، وهو وزير ثقافة، بجانبك، بينما نجلس نحن بعيدا عنك بعض الشيء؟»، وأجاب ديغول: «لأن أندريه ينظر للقضايا الأمنية والسياسية من منظور ثقافي، ولديه توجه إنساني، وهذا ما أحتاجه».

ويبقى التساؤل الأكبر هنا: ما نقطة الاختلاف الرئيسية بين المنظورين؟ للتعرف على الإجابة، علينا إمعان النظر في كلمات القذافي، فقد أعلن رغبته في تطهير ليبيا باستخدام الدبابات والطائرات. ويريد أن يحقق هذا التطهير عبر مرتزقة، وما إلى غير ذلك. وأبى أن ينصت لصوت شعبه. ورفض أن يرى مئات الآلاف من المتظاهرين يصيحون ضده. وينظر لنفسه باعتباره المعيار الوحيد للحقيقة المطلقة. وكان السؤال الأخير الذي طرحته الصحافية الإيطالية الشهيرة أوريانا فالاتشي على القذافي هو: «هل أنت الرب؟».

من ناحية أخرى، رفع أحد المتظاهرين في بنغازي لافتة تحمل كلمة «ارحل» بسبع لغات. وفي رأيي، لم تحمل هذه اللافتة ما يرغب حاملها في التعبير عنه فحسب، وإنما أيضا ما يرغبه كثير من أقرانه من الليبيين. إنهم ببساطة لا يرغبون في وجود القذافي. ويسأل هذا المواطن الليبي بسخرية: ما اللغة التي يفهمها القذافي؟!

عندما يرى القذافي وغيره من قادة الدول الإسلامية القضايا من منظور أمني، يصبح من الواضح أنهم سيسعون لحل كل مشكلة أو أزمة من منظور أمني. مثلا، في بنغازي، عندما خرج الآلاف إلى الشوارع، بدأت قوات الأمن التابعة للقذافي في إطلاق النار وأسقطت قتلى بينهم لمجرد مطالبتهم بالتغيير.

وبدأت المظاهرات في بنغازي في 18 فبراير (شباط) أثناء جنازة 20 من المتظاهرين الذين لقوا حتفهم على أيدي قوات الأمن في اليوم السابق. وأخبر شهود عيان منظمة «هيومان رايتس ووتش» أن قوات أمن ترتدي ملابس رسمية صفراء مميزة فتحت النار على المتظاهرين قرب فضيل عمر قتيبة، وهي قاعدة للقوات الأمنية بقلب بنغازي. وأخبر أحد المتظاهرين «هيومان رايتس ووتش» أنه عاين مقتل أربعة رجال بالرصاص.

وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحولت بنغازي إلى مركز للمقاومة الليبية في شرق ليبيا، وتحولت قوات الأمن إلى مفتاح مكسور يتعذر استخدامه في فتح الباب، مثلما قال الإمام علي بن أبي طالب: «ولكن بمن وإلى من أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي؟ كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها».