الشرق الأوسط قادر على فرض وجوده في الاقتصاد العالمي

TT

نمت جميع اقتصادات منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية. ونظر إلى تونس ومصر كاقتصادين ناشئين، بينما صنفت سوق الأسهم المصرية كسوق ناشئة. وفي تلك الأثناء، ازدهرت دول الخليج المصدرة للنفط. لكن هذا النمو الاقتصادي كان متفاوتا على المستوى الإقليمي وغير متجانس على المستوى الوطني؛ وأخفق أيضا في تلبية احتياجات شعوب المنطقة. لذا، فإن الإصلاح ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة لأنه سيمنع العيوب الهيكلية من إفساد المكتسبات الاقتصادية التي حققتها هذه المنطقة.

إن الحقائق الأساسية واضحة تماما. فخلال العقد الأخير، انخفضت المعدلات العامة للبطالة لكن نسب البطالة في صفوف الشباب ظلت أعلى بكثير من عشرة في المائة. كما ازدادت البطالة المقنعة واشتد الشعور بالتهميش الاقتصادي وفقدان الكرامة. أما حكومات المنطقة التي تواجه تحدي النمو السكاني المتسارع، فقد عجزت عن معالجة قضايا المساواة والتوزيع العادل للثروة والرفاهة الاجتماعية.

وحاولت دول المنطقة المستوردة للنفط (مصر والأردن ولبنان والمغرب وسورية وتونس) خصخصة الشركات المملوكة للدولة والانتقال إلى نموذج السوق الذي يعتمد بالأساس على الشركات الخاصة. لكن رجال الأعمال المحسوبين على أنظمة الحكم وكذلك المتحالفين معها كانوا أكبر المستفيدين من عمليات الخصخصة والانفتاح الاقتصادي الذي صاحبها. ولئن جذبت المنطقة الكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن معظمها استهدف قطاع الهيدروكربونات الذي لم يوفر للمواطنين إلا القليل من فرص العمل الجديدة. علاوة على ذلك، لم يتم إصلاح الهياكل البيروقراطية المتخمة بالموظفين، بينما أصبحت أسعار العقارات بعيدة عن متناول غالبية المواطنين.

أما بالنسبة لدول المنطقة المصدرة للنفط (الجزائر والبحرين وإيران والعراق والكويت وليبيا وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والسودان والإمارات العربية المتحدة واليمن)، فقد كانت الهيدروكربونات نعمة ونقمة في آن معا لأن عائداتها شجعت حكومات هذه الدول على إهمال الإصلاح وتنويع الاقتصادات؛ ناهيك عن سوء الإدارة وإهدار المال العام. في المقابل، مثل النمو السكاني المتسارع أحد القواسم المشتركة بين دول المنطقة كافة.

ورغم النمو الذي أحرزته اقتصادات المنطقة المصدرة للنفط، فإن مستقبلها يبدو غامضا بسبب التخطيط المعيب. فأثناء طفرة النفط الأخيرة التي امتدت من عام 2003 إلى عام 2008، احتدمت المنافسة بين دول الخليج المصدرة للنفط في نفس القطاعات، مما أدى إلى إضاعة الكثير من الوقت وتبديد الكثير من الموارد، إذ تنافست هذه الدول على الزيادة في قطاعات المال والسياحة والعقارات والنقل الجوي والتصنيع وصهر الألمنيوم، باعتبارها أهم محركات النمو الاقتصادي من وجهة نظرها.

ورغم ضخامة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنها لم تساهم في تنويع اقتصادات دول الخليج المصدرة للنفط لأن معظمها استهدف قطاع الهيدروكربونات. لكن الأخطر من ذلك هو الاعتماد المفرط للقطاع الخاص الخليجي على العمالة الوافدة، الأمر الذي أرغم القطاع العام الخليجي أن يصبح الملاذ الأخير لحماية وتوظيف المواطنين.

وعلى صعيد العوامل الهدامة، يشار إلى أن زعماء دول الشرق الأوسط تعاملوا مع اقتصاداتهم عن بعد لأنهم أسندوا مهمة إدارتها إلى «تكنوقراطيين». كما ولد معظم هؤلاء الزعماء لدى النخب السياسية المحلية الانطباع بأنهم يمتلكون بلدانهم، الأمر الذي لاحظته مجتمعاتهم أيضا. هذا، وعجزت اقتصادات المنطقة عن التنافس في السوق العالمية. ففي عام 2003، مثلا، فاق حجم صادرات الفلبين من المنتجات الصناعية مجموع صادرات منطقة الشرق الأوسط من هذه المنتجات. ومع أننا نعترف بوجود شركات متميزة في بعض دول المنطقة، فإن هذه الشركات تمثل الاستثناء، لا القاعدة. ولتحقيق النجاح، تحتاج اقتصادات الشرق الأوسط حاليا إلى رؤية تحررها من قبضة رجال الأعمال المحسوبين على أنظمة الحكم والمتحالفين معها. ولا بد من إصلاح القطاع العام لتعزيز فاعليته ورفع إنتاجيته، بالإضافة إلى مكافحة الفساد من خلال تفعيل آليات الرقابة المتوافرة بالفعل وجعل الجميع أكثر قابلية للمساءلة. وبالنسبة لدول المنطقة المصدرة للنفط، يتمثل التحدي الرئيسي في إدراك حقيقة أن الإصلاح الاقتصادي ضرورة ملحة مهما بلغ حجم عائدات صادراتها النفطية.

وخلافا للدول المستوردة للنفط، تتمتع الدول المصدرة للنفط بإمكانات مالية هائلة تحتاجها الآن لتوسيع استثماراتها في مجالات حيوية، مثل الموارد البشرية المتميزة القادرة على توفير التعليم والتدريب بأعلى المعايير العالمية. كما ينبغي على المنطقة أن تتخلى أيضا عن البنية التحتية الرخيصة لصالح المشروعات الاستراتيجية المتميزة.

وقد تستطيع الطاقة المتجددة والتكنولوجيا توفير مستقبل أفضل للدول المصدرة للنفط. لكن استبدال العمالة الوافدة بمواطنين أكفاء يمثل مفتاح النجاح. لذا، ينبغي إلغاء سياسة الهجرة المفتوحة وتسريح نسبة من الأجانب العاملين حاليا في الدول المصدرة للنفط في غضون فترة زمنية محددة؛ لأن هذا الإجراء سيدفع الاقتصادات المصدرة للنفط إلى الانتقال من الاعتماد المفرط على العمالة الوافدة الرخيصة وغير الماهرة، إلى بيئة اقتصادية متوازنة تسمح بتوظيف العمالة الوطنية الماهرة التي تتقاضى أجورا مرتفعة.

وبالنسبة للدول المستوردة للنفط، يعد الحصول على التمويل الكافي مسألة حيوية، علما أن تلبية احتياجات سكانها ليست بالمهمة اليسيرة، خصوصا أن أعدادهم أكبر بكثير من أعداد سكان الدول المصدرة للنفط. لذا، ينبغي على الدول المستوردة للنفط أن تعزز حضورها في الأسواق العالمية وأن تجعل اقتصاداتها صديقة للمستثمرين الأجانب وجاذبة لهم.

وبخصوص دول الخليج المصدرة للنفط، تحديدا، قد يؤدي توظيف المزيد من مواطنيها إلى تقليص فرص العمل التي ستوفرها في المستقبل لمواطني دول المنطقة المستوردة للنفط. ومن المتوقع أن يؤدي توسيع الشركات والأنشطة التصديرية التي تحتاج الكثير من العاملين إلى استيعاب العديد من العاملين الجدد. كما أن تشجيع إنتاج السلع التصديرية والسلع التي تحتاجها الأسواق المحلية قد يحفز مجمل النشاط التجاري الداخلي، وقد يرفع معدلات نمو الشركات الخليجية الصغيرة والمتوسطة الحجم. ويكتسي رفع الإنتاجية بالغ الأهمية لأن المنطقة تسعى لتعزيز شفافيتها وقدرتها على التنافس في السوق العالمية.

وسترتفع إنتاجية الشركات الخاصة ودرجة اعتمادها على نفسها كلما قلصت الحكومات الامتيازات والعمولات الخاصة التي تقدمها في إطار تنفيذ مشروعاتها التنموية. وينبغي على منطقة الشرق الأوسط أن تحقق المنفعة القصوى من جميع الأدوات الاقتصادية المتوافرة لديها. وإذا أفلحت هذه المنطقة في إيجاد حلول ناجحة لمشكلة التوظيف، فإن اقتصاداتها سوف تتطلع حتما إلى تحقيق المنفعة القصوى من «طاقاتها البشرية» الهائلة.

إذن، يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط قادرة على فرض وجودها في الاقتصاد العالمي إن دفع حكامها ومجتمعاتها في نفس الاتجاه.

* مدير عام وكبير الخبراء الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي